التصوف
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

إذ إن لكل متصوف أسلوباً خاصاً يزعم أنه يقترب به من الله.
وأصل التصوف«العكوف على العبادة الانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلو في الخلوة والعبادة».
وشاع التصوف في أديان الأمم كلها: في الوثنية والمجوسية واليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عرفه في بعض أشكاله البابليون واليونانيون والرومان والهنود والصينيون والعرب والعجم.
وقد بدأت الحياة الصوفية في الإسلام بأفراد يسلكون في عبادتهم ومجاهدتهم طريقاً شخصية خاصة، ولم يكن لهم حتى نهاية القرن الثاني الهجري حياة منظمة عامة. ولكن سرعان ما ظهرت في صفوفهم حلقات واجتماعات في المساجد أولاً، ومن ثم في الخانقاهات والرّبط، حيث اجتمع المشايخ وحولهم جماعات منتظمة من طالبي التصوف.
والطريقة، هي الاسلوب الخاص الذي يعيش الصوفي بمقتضاه في ظل جماعة من جماعات الصوفية تابعة لأحد كبار المشايخ. أو هي مجموعة التعاليم والآداب والتقاليد التي تختص بها جماعة من هذه الجماعات. وهي أيضاً الحياة الروحية التي يحياها السالك إلى الله أياً كان سواء أكان منتسباً إلى فرقة من فرق التصوف أم غير منتسب وتابع لشيخ أم غير تابع، فالطريقة بهذا المعنى«فردية»إذ لكل سالك إلى الله حياته الشخصية وعالمه الروحي الذي يعيش فيه وحده، قديماً قال بعض العارفين:«إن الطرق إلى الله بعدد السالكين إليه». ويطلق على هذه الطريقة أسماء وأوصاف وعديدة فهي«السفر»و«السلوك»و«المعراج»و«الحج»وماإن أخذ التصوف يتبلورفي شبه مدرسة روحية ويتميز بشعائر خاصة، حتى أخذ أتباعه يجتمعون في أماكن خاصة لعبادتهم عرف واحدها بالرباط أو التكية، كانوا
ينقطعون إليه ويعتزلون فيه المجتمع.
يقضون نهارهم بالقراءة وليلهم بالتهجد، يقيمون حلقات الذكر ويتناولون شيئاً يسيراً من الطعام والشراب يلبسون قميصاً من خشن الصوف ويفترشون الحصير الصلب، وبعد أن يلتحق الطالب بالحياة الصوفية، يعيّن له شيخ يدربه، حتى أثبت تغلبه على نزواته وارتاض بالنهج الصوفي، يجري بعد ذلك تكريسه متصوفاً فيلبس الخرقة الزرقاء رمزاً... ويمّر بعد ذلك في أربع درجات:
أولها: درجة المريد وهو طالب الانتساب.
ثانيها: درجة السالك وهو الذي استكمل تدريبه على يد أحد المشايخ.
ثالثها: درجة المجذوب وهو الذي انجذب إلى الطريق الصوفي بكل جوارحه.
رابعها: درجة المتدارك وهو الذي نجت نفسه من غرور الدنيا.
وللصوفية معتقدات عديدة منها ما هو مأخوذ عن الفلسفة التي شاعت في الإسلام، ومنه ما هو توسع في تعاليم القرآن، ومنها ما هو نتيجة لاختبارات شخصية، ولكن مهما تعددت المذاهب، ومهما اتسعت الفرق الصوفية وكثرت طرقها فالغاية واحدة:«الاتصال بالله والاتحاد به».
وأهم الأفكار والمعتقدات المشتركة بين المتصوفة تتمثل:

أولاً
فكرة«الحب الإلهي»وهي الفناء في الله، بحيث يصبح المتصوف لايرى في الوجود غير الحق، لايشعر بشيء سوى الحق وفعله وإرادته. فالفناء الحق فناء عن الخلق وبقاء في الحق. ومن أشهر أعلامه رابعة العدوية، والبسطامي، وابن الفارض والسهروردي.
وفي قول رابعة العدوية«إلهي إن كنت أعبدك مخافة النار فاحرقني فيها، وإن كنت أعبدك رغبة في الجنة فأبعدني عنها، وإن كنت أعبدك لذاتك فلاتصرف عني جمالك السرمدي».
ويرى السهروردي أن الفناء منه ما هو ظاهر ومنه ماهو باطن، فالظاهر هو الفناء عن الأعمال والصفات، والباطن هو حالة اتحاد كامل بالله ومشاهدة لآثار عظمته ومكاشفة أسراره.

ثانياً
الحلول«قيام موجود بموجود على سبيل التبعية، أول من قال بها الحلاج، وكان قد أخذها عن المسيحية، وهذا لما شعر بنشوة الحب الإلهي ودرج إلى الفناء أحس بأن الله قد حلّ فيه فاشتركت فيه الطبيعة الإلهية مع الطبيعة الإنسانية وامتزجت الروحان مزجاً حتى صار يقول:«مزجت روحك في روحي»وكذلك أنشدها ابن الفارض في بعض أشعاره.

ثالثاً
التجلي، مذهب يعتبر الله قد تجلى في صورالكائنات:كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني». نشأت هذه النظرية مع العطار الذي يعتبر العالم تجلياً لله، وتبلورت مع ابن الفارض الذي راح ينشد العزة الإلهية المتجلية في مظاهر عديدة كقوله:تراه إن غاب عني كل جارحة في كل معنى لطيف رائق بهج
ماذاك إلا أن بدت بمظاهر فظنوا سواها وهي فيها تجلّت .

رابعاً
وحدة الوجود ووحدة الشهود، وهما أهم ماذهب إليه الصوفيون، تقوم وحدة الوجود على فكرة بأنه لاموجود إلا الله. أما وحدة الشهود فهي عندهم حالٌ تستولي على بعضهم فيفقد صاحبها التمييز بين نفسه وذات الله وبين المخلوقات والله، ويعتبر محيي الدين بن عربي رائد الوحدتين، فكل فقرة من كتابه«فصوص الحكم»وكثير مما يقوله في«الفتوحات المكية»ينطق بما لايدع مجالاً للشك بأن له مذهباً في وحدة الوجود كقوله:«سبحان من خلق الأشياء وهو عينها» ومن وحدة الوجود يتدرج ابن عربي إلى القول بوحدة الشهود، وذلك عندما يقسم الحق إلى مراتب: في المرتبة الأولى: الحق في ذاته، وفي المرتبة الثانية: الحق في تجليه،والمرتبة الثالثة: فهي مرتبة الحق في قلب الصوفي، وبذلك يرى ابن عربي وحدة الشهود عن طريق الكشف والإشراق، كما قال بوحدة الوجود عن طريق العقل والمنطق. وقد أدت هذه الأقوال إلى وجود وحدة مثالية إلى وجود الله الذي يظهر في الخلق وهو يحتوي المخلوق وليس الخلق يحتويه.

خامساً
وحدة الأديان، حيث يميل معظم الصوفيين إلى توحيد الأديان في نظرية الحب الإلهي، لأن الحب هو جوهر العبادة والأديان سواء كانت سماوية أم وثنية، متساوية يستغني عنها وعن أساليبها المتقدمون في طريق الحق. وفي قول للحلاج:تفكرّت في الأديان جداً محققاً فألفيتها أصلاً له شعب جمّا ويساوي جلال الدين الرومي بين عدة أديان فيقول:مسلم أنا. ولكني نصراني برهمي وزرداشتي توكلت عليك أيها الحق الأعلى فلاتنأعني، لاتنأعني.

سادساً
القطبية، القطب أو«الإنسان الكامل»الذي هو الخلاصة الحقيقية الكونية وظل الله على الأرض، وقد تجلى في آدم وعيسى، ثم في الحقيقة المحمدية. والقطب وحده يعرف الله حق المعرفة، ويحب الله خالص الحب، ويحبه الله كامل الحب، ويبين ابن الفارض أزلية الإنسان الكامل وشموله الكون ومافيه فيقول: ولافلك إلا ومن نور باطني به ملك يهدي الهدى بمشيئتي ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن شهود، ولم تعهد عهود بذمةِ ويتحدث ابن عربي عن الإنسان الكامل فيسميه آدم ويرمز به إلى النوع البشري ويسميه«الروح الأعظم، وفلك الحياة، والقطب، والقلم الأعلى، والعرش و«العقل الأول».

سابعاً
الإشراق والمعرفة: الإشراق هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على الأنفس عند تجردها، وهو يستند إلى الكشف والمشاهدة اللذين اختص بهما الحكماء، والمتألهون من فارس وقدماء اليونان عدا أرسطو وشيعته.
ومبدأ هذا المذهب هو«أن الله نور الأنوار، مصدر جميع الكائنات، فمن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالم المادي والروحي، والعقول المفارقة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك وتشرف على نظامها»وأول من قال بهذا المذهب السهروردي في كتابه«حكمة الأشراف»حيث يقول:«الصوفية والمجردون من الإسلاميين سلكوا طريق أهل الحكمة ووصلوا إلى ينبوع النور وكان لهم ما كان». وبدوره ابن عربي يعتبر أن المعرفة يهبها الله فضلاً منه ومكرمة، فهي ليست باكتساب العبد، بل مكاشفة ورؤيا، الإدراك المباشر لايحصل إلا بعد المرور بثلاث درجات:مشاهدة الخلق في الحق، ومشاهدة الحق في الخلق، ثم مشاهدة الحق دون خلق وهي أعلاها. ويسمي الغزالي المعرفة الصوفية علم المكاشفة فيقول«هو علم الصدّيقين والمقربين» ويلخص العطار ذلك بقوله:«الله لايدرك بالقياس لأنه ليس كمثله شيء»
وبهذا يتضح أن أداة المعرفة الصوفية هي القلب لا العقل. فالقلب مرآة جلية ترتسم فيها الصفات الإلهية. وقد جرى في القرآن هذا الاستعمال فجعل من القلب محلاً للإيمان الصحيح ومركزاً للتدبير والفهم وأداة المعرفة«أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»،«أولئك كتب في قلوبهم الإيمان».

BLOG COMMENTS POWERED BY DISQUS