قصص

Rahaf Rifai

بدأ العد التنازلي لأيامي التي باتت معدودة ، وبدأت أستنفر  آلامي وأحزاني وهاهي ذكرياتي تستعد معي للرحيل. ذاك الذي يقولون عنه مؤلما" ... لكنني أنتظره بشغف وترقب فلامقارنة بين آلام أكابدها وألم الرحيل. مستلقية على سريري أطارد نوما"  هرب من مقلتي بلا عودة منذ أيام وأظنه لن يعود!ليلٌ طويل مظلم حزين يصر على مداعبتي ،وخطوات ألم متعثرة عرفت طريقها إليّ... وخلف دموع الحزن النازفة والأوجاع يُنسَجْ لروحي رداء ليل بهيم ....نجومه ذابلة بَريقة بلون الدم ....

أخي وسندي مازن : حين تقرأ جملي  هذه , سأكون قد رحلت إلى الأبدية ,وأعلنت ندمي على أنني كنت يوما ما حية في هذه المدينة المذبوحة .ولن أعاني الفقدان ’ فظلام القبر لا يحتاج إلى ضوء شموع لا تتوفر هنا  , وبرده لا يحتاج إلى  خزان وقود يسرقون محتوياته دائماً .

حلب مدينة المقابر والمعابر والدخان الأسود المليء بالحقد واللاإنسانية. مدينة المعاناة حيث اللا حياة تسكن في كل ثانية من ثوانيها . مدينة امتلأت اليوم بالأحقاد , تعيش زمن الدمار,  

مازن أنت روحي ...تقبرني ...الله يخليلي ياك ...شكرا لك ...لأنك أدخلت السرور إلى قلبي ,برغم كثرة جراحه وآلامه.

لأنك منحتني الأمان والحب الصافي والأخوة الصادقة.

بوفاة والدتي خرج "مازن" إلى مغتربه هربا من وطنه ,  الذي قتلت مشفاه والدته , خرج قبل أن ينتقموا منه حين امتشق سلاح الكلمة وجرده في وجوههم قهرا وإنصافا لوالدته الشهيدة  التي قتلها خطأ طبي في مشفى حكومي  خشي والدي على ابنه الوحيد من أن يصبح نسيا منسيا!

Rahaf Rifai

أيام ويأتي يوم الرحيل ...أيامي في هذه الحياة باتت معدودة.   يقولون أن الرحيل مؤلم ولكني انتظره بشغف وترقب ,   فالآلام التي أكابدها لن تقارن بألم الرحيل

دخل "أكرم" محل البقالة كما اعتاد كل يوم حين عودته من العمل  قاصدا منزله,  وبينما كان يهم بطلب احتياجاته اليومية , دخلت البقالية امرأة مسنة, يبدو الوقار على محياها ,وتشوبها مسحة من الحزن  ,تكلمت بصوت ضعيف  : الله يعطيك العافية أبو محمد ..

قصص الأطفال من أفواههم ،  قصص تشيب لها الشعور وتبكي بقساوتها الحجر الصوان .ذكريات مرة ، واحاديث مؤلمة،  وغصة كبيرة ، حين تجلس إلى هؤلاء الأطفال الذين لم ترتسم البسمة على وجوههم منذ اشهر.تركوا منازلهم ومدارسهم وأصدقاءهم وأقرباءهم وأهلهم وجيرانهم وخرجوا في ليلة حالكة هاربين من بؤس وشقاء ، من قتل وخطف وتعذيب ، من أصوات الرصاص ودوي المدافع وصفرات الصواريخ وجحيم الخراب .

هذه ليست أفكارا خصبة  , وليست عاقرا كالبغال العقيمة .

هذه القصص لم يكتبها كاتب مهووس, يزهق الأرواح بمفردات وجمل .

هي قصص رعب لم يتخيلها أي كاتب على مدى العصور. قصص واقعية منقولة بلغة أحداثها

يقول محمد وهو لاجئ سوري " محامي " : الارض نفسها والهواء نفسه والمحبة نفسها  ولكن النبتة لا تسطيع العيش اذا اقتلعت من ارضها ومنبتها ، وخاصة اذا اجتثت اجتثاثا , صعب جدا ان تترك منزلك وعملك واملاكك وحاجاتك وتنتقل بين يوم وليلة من الامن والامان  الى التشرد والضياع ، ويصبح فراشك الارض ولحافك السماء ،

رحيل ...

دموع  مغرورقه بألم الفراق ,  تمتزج مع بسمة أمل الخلاص , ترتسمان على وجه الأم السموح , وهي تودع ما تبقى من أبنائها  , ابنها المهاجر إلى أوروبا  بعيدا عن بلاد القتل والدمار والذل والهوان  , قائلة له "أسألك الرحيلا"!

"بيت المرء مملكته “بهذه العبارة تعبر "أم عبدو " عن ألم النزوح ، وتتابع أنا لم اترك منزلي...  أنا هربت من الموت ،  ياليتني مت هناك أمام منزلي ،  فانا أموت هنا كل يوم اَلاف المرات.!ربحت الحياة... ولكني خسرت الحب والدفء ، بيتي كان جنتي المليئة بالزهور والأشجار المثمرة,  

على باب المخبز وقف  “فراس " يتأمل طفلاً صغيراً وهو يضم ربطة خبز إلى صدره كما لو أنه يضم اخا او اختا له  بعد طول فراق. يحدق "فراس "  بالمشهد وهو يتساءل : كم هو قاس هذا الزمان لتتحول ربطة خبز الى حبيبة تمنح  كل هذه السعادة  لطفل بلقائها ؟

الو ...مريم ! ؟

على الطرف الأول أحمد (مواطن سوري لاجئ في مخيم على الحدود التركية) .......  آلو ...مريم ...... ؟

على الطرف الآخر (مواطنة سورية لاجئة في مخيم الزعتري  على الحدود الأردنية)   ....

بعد عشرين عاما  عادت السيدة "كوكا"  مع أطفالها  إلى بلدها ومسقط رأسها في رومانيا  ,  مخلفة  ورائها عمراً وذكريات , سعادة وأصدقاء , منزلاً وسيارة ,  اعتادت " كوكا " أن تتصل  يوميا باخت زوجها وعائلتها  , لتطمئن على صحتهم , وتستطلع أخبارهم , آملة أن تسمع في يوم ما أن الأحوال قد استقرت ’فتعود إلى حياتها وتعود إليها سعادتها .

الطفل " ثابت " يجلس أمام التلفاز مع عائلته ويراقبون بدهشة وألم أخبار اليوم.

على التلفاز مشاهد منزل ألفوه, وأمكنة أحبوها,  وذكريات تركوها.

قذائف هوت فوق منزلهم, فتحول إلى أحجار وأطلال

ليل بلا نجوم ,الأشجار العارية على امتداد الطريق  ترتجف خوفا من صرخات الريح التشرينية الباردة، القمر خائف مختبئ خلف غيوم داكنة ،الظلام هو السيد .   أصوات آليات ثقيلة تقطع سكون الليل، تتوقف عجلاتها عن الدوران Hمام البناء ، ولا يسمع سوى هدير المحركات.

أخيرا اتى هذا اليوم المنتظر، يوم العرس الكبير ، كم حلمت "ياسمين " ان تضمها جدران منزل واحد مع "أمجد " ! ، وكم كانت تسهر الليالي متخيلة نفسها بين أحضانه تحت سقف واحد ، وأولادهم يلعبون في فناء الدار ، فرحة "ياسمين" باقترانها بأمجد الذي انهى خدمته العسكرية وعاد الى قريته ليتزوج ابنة عمه لا توصف، بعد سنتين من الخطبة التي تحدثت عنها القرية ، حين أُعلن ان أجمل بنات القرية قد خطبها أكثر شبابها ذكاء ورجولة ، 

الحزن الأسود يغرق كياني بدموعه بعد أن تمكن من أن يجعل الدموع تنهمر من كل خلية في جسدي. الفاجعة ذبحت نسيج قلبي فنزف ألما.
اللوعة تحرق أعصابي فاستنشق رائحة الحريق باستمرار. النفس انفصمت وتشرذمت إلى فتات ناعم تبعثر في كل مكان. المأساة حولتني سكينها الحادة إلى كومة من اللحم اللزج. اضمحل صوتي وتلاشى، فأنا غير قادر حتى على الصراخ. ورغم صحوتي الظاهرة للجميع فأنا مغمى علي من الألم.
 

عندما كانت الدموع تملا عينيها الخضراوات وهي تتكلم ،  وحين كانت الآهات تمتزج مع حركة المنديل مجففا دموع الندم فانك تشعر أنك أمام ضحية  , أما حين  تكتمل خيوط ماساتها التي روتها بلفة عربية تمتزج فيها المصطلحات الرومانية تدرك سذاجتها وقلة حيلتها وغدر الزمان .وتتأكد أن جمالها وخفة دمها وانطلاقتها وشبابها وأنوثتها المتفجرة كانوا جواز سفرها إلى عالم العذاب .  

سؤال ظل يقض مضجع "سارة" ،ويطرق كالسندان على أفكارها  لفترة طويلة من الزمن، كانت سارة خلالها كمركب صغير في محيط عاصف تتقاذفها أمواجه في جميع الاتجاهات، وكانت تبحث عن شمس تدلها على الشرق، أو قمر يدلها على الغرب، أو نجمة تضيء لها عتمة الإجابات ،وأخيرا قررت أن تجد أي شاطئ لترسو عليه مراكب حيرتها، فتصالحت مع نفسها،

لقاء

القارئ أناني

يبحث عن اللقاء مع نفسه داخل النصوص .

الناس اعتادوا على اللقاء

أصدقائي الألداء في الغربة كم أتمنى لو أتقيأ في وجوهكم!لأرد لكم  ولها بعض الدين الذي نضحت به.بهذه العبارة المقرفة بدأ "سليم"  كتابة رسالته من على سرير المشفى وهو يتذكر المواقف  غير النبيلة لبعض أصدقائه العرب في رومانيا بعد أن علموا ما ألم به من مصاب .

على أريكة الحياة، يتهالك القلب المتعب، نبضاته تعد الثواني المتبقية، الجسد المنهك  يعانق السرير الأبيض، الزمن يترك علاماته على الوجود. سرير بلون الحقيقة، لونه الأبيض يشع الأمل، والأجساد تبادله الألم، قَدَره أن يكون مجمعا للأحزان، ومحطة قصيرة للأجساد المتعبة.

مع تلافيف المساء، لملم  الوجد حقيبته  مودعا،باحثا في رحلته السرمدية إلى عالم مجهول عن مأوى في كهف أسطوري، مرفرفا بجناحي الليل المزين بقمر كالعرجون القديم. فوصل الفجر متعبا من رحلة المساء .النفس المهاجرة إلى مجهول جديد عبر رحلة أبدية ل"هيرميس"تخترق السحب القطنية،

في المعتقل الصحي لم يكن إلى جانب“عمرو”سوى والدته المرحومة،والمرحوم والده. غربة في غربة! اليوم لم يزره في المشفى احد من الأصدقاء والمعارف, يبدو أن تكاليف الحياة قد أنستهم وجوده ،ولكي لايبقى وحيدا فقد اخترع  زوارا من بنات أفكاره وجيرانهم، الذين وهبوه وقتهم، وعواطفهم، وأمنياتهم، وسهر معهم حتى مطلع الفجر .

سكون تام في الغرفة،تقطعه بين الفينة والأخرى ضجة عقربي الساعة الجدارية وهما يلتهما الوقت.كل شيء على حاله مذ ذهب للنوم مساء الأمس، المكتب بفوضويته,  أوراقه المتناثرة، أقلام مبعثرة، بقايا  الشاي في الفنجان، علب الأدوية، الكمبيوتر أعز أصدقائه، الهاتف مرافقه الدائم، وعلبة المحارم الفارغة. جميعهم يجلسون بهدوء كما تركهم في الليلة الماضية قبل أن يخلد متعبا إلى النوم. 

لا اعلم لماذا افتح عيني كل صباح  على ذكريات الوطن والأحبة في الوطن.  دقائق من شريط الذكريات

تمر بالخاطر تحتل الزمن  مابين الاستيقاظ والنهوض من السرير.

تترائ لي في أحلام اليقظة  غرفتي الصغيرة في منزلنا البسيط  وأكاد اسمع أصوات الباعة المتجولين

من نافذة المشفى الموحشة  أطلت أولى نظراته  بعد العملية الجراحية التي أجريت له

فعانق الحياة من جديد  بعد أن انزلقت به الهاوية إلى حافة الموت .  الوحشة ولاشيء سواها

في تلك المقبرة البيضاء،  الأبواب مغلقة دونه ، وحيدا يدافع عن نفسه

يوم خريفي ممطر.الشتاء في طريق عودته  من رحلته الجنوبية.

سيعود ثانية ليطرق الأبواب  داخلا دون استئذان.

الشارع يتحرك تحت مظلة من الغيوم الداكنة الممطرة.

من العدم انطلقت مشاعري صارخة  تعلن عن ولادتها ، نظرة فابتسامة فموعد فلقاء  حديث ونظرة إلى عينيه 

كانت كافية لتجعل إيقونة السحر فيهما  تبدأ مفعولها ،ومن عينيه ابتدأت رحلة إلى عالم جديد،

 عيناه كانتا وطني الجديد  ومملكتي القادمة ،  والزمن أصبح له مقياس آخر في حياتي

مازن رفاعي

ما أقسى الرجوع إليك أيتها الجدران! وكم أنت قميئة ومفيدة يا أيتها النافذة العالية الصغيرة المزينة بالقضبان!

أفكار تنهمر في مخيلته  ودموع حزن لا تفارقه وهو ينظر إلى الضوء القادم من تلك العالية،

فدوام الحال من المحال. ولكن ألم يكن هذا بالحسبان؟

تستيقظ الشمس معلنة بدء يوم جديد.أشعتها تتسلل بخفة من النافذة  فتصل إلى سريره. يصرخ جرس المنبه.

يداه تبحثان عن طريقة  لإسكات هذا المزعج.  عيناه تقاومان ضوء النهار.  أقدامه تقوده إلى الحمام.

الفرشاة تلعب بين أسنانه.الماء يتحطم متناثرا على وجهه. ثياب النوم تغادره

الغربة والحب والموت في قصص مازن الرفاعي

غالية خوجة

يلمس القارئ لقصص مازن الرفاعي أبعاد الحياة بكل تلاوينها وهي تتحول من اللحظة المعاشة إلى لحظة مكتوبة تتعدد فيها بنيات الحكي والكلام، فتارة تأخذك إلى عالم الوجدان المتسم بحالة من الوصف المباشر والمشهدية التصويرية السيناريوهاتية والرومانسية،

مازن رفاعي

تسع عشر سنة مرت على زواجي.

تسعة عشر ربيعا من عمر ابنتي سارة.

تسعة عشر حولا وأنا بعيد عنها.

تاريخان مميزان في غربته:الأول هو تاريخ حصوله  على تأشيرة الدخول إلى رومانيا،  والآخر هو حين سيعود منها محملا في تابوت.

في طرق الهجرة إلى الشمال،والعودة إلى الجنوب،هناك الكثير من الأحلاموالانتماءات المدفونة.وعلى قارعة تلك الطرقات،

تغيرت حياته وحياة الكثير من أصدقائه،وربما حياة مئات الآلوف  من الشباب المهاجر.

Destroyed strategy missing afford

للغربة ..للوطن..للضياع في ممرات المتاهة التي ازدانت بالأحلام التي رصعها فوق مقاعد الدراسة حيث كان يحث الخطى نحو جسر العبور الموصل للغرب السعيد أو هكذا كان يظن ورفاقه في المدرسة

يــوم عادي... لا يميزه عن غيره من الأيام  سوى أنه سيشهد لقائي الأخير بها.  وكعادتي وفي كل لقاء

أحاول أن أستحضر بعض الخواطر الجديدة،لأعبر لها عن مكنون قلبي.مضيفا بعض التوابل لمشاعري وأحاسيسي

ليكتسب لقاءنا نكهة المحبين  وطعم العشق والوله.

النهار يودع الشمس  والشارع يتحرك تحت مظلة  من سحب الشتاء الداكنة  الهاربة في كل اتجاه ،

المطر خفيف رقيق ناعم  أنفاسه السريعة المتلاحقة تغسل الأرض،  الإشعاعات الأخيرة من الشمس الغاربة تودع الرصيف المبتل ،

تزحف خارجة من النافذة  بعد أن وجدت لمسة من الدفء  بجانب الموقد .