الو ...مريم ! ؟
على الطرف الأول أحمد (مواطن سوري لاجئ في مخيم على الحدود التركية) ....... آلو ...مريم ...... ؟
على الطرف الآخر (مواطنة سورية لاجئة في مخيم الزعتري على الحدود الأردنية) ....
آلو أحمد ... احمد....... !!
ولم يعد يسمع على الخط سوى أصوات البكاء المر ,بكاء هستيري ، والنحيب المستمر ، وكلمات مبهمة ، اجتاح طرفي الخط مريم واحمد بكاء غريب ورائه حكاية ألم طويلة ابتدأت منذ أشهر .
الحكاية بإختصار هي : ألم ونزوح وهيام وضياع ، سكان شردت ، مخيمات شيدت ، ومدن سويت بالأرض ، وشهداء دفنت ، وأطفال لا تدري بأي ذنب قتلت . وموت يلاحق الهاربين في وطنهم الأم !
ليس هناك وقت لسرد حكاية أحمد ومريم ، فصرخاتهم لا يمكن تمييزها بين آلاف الصرخات ، وذكرياتهم لم يعد لديها مكان تختبئ فيه ،فقد هدمت كل الأماكن التي يمكن أن تشتاق اليهم، ولم تعد قادرة على البوح بالذكريات ، لا مكان للوقوف ولا للبكاء على ذكرى حبيب ومنزل .
أخبارهم كما هي أخبار الموت في سوريا ، تتزاحم على الفضائيات فلا تجد لها مكانا للبوح ، دموعهما جفت منابعها فلم تعد قادرة على التعبير عن الألم .
قبل صباح ذاك اليوم ( يوم التشرد والضياع) كان كل شيء في حياتهم يسير برتابة وانتظام كعقارب الساعة، حياة متواضعة لأسرة سورية مكافحة تحلم بأن تربي ابنتها الوحيدة لتصبح طبيبة .
وقبل صباح ذاك اليوم بأسابيع انطلقت شرارة حكايتهما، كلمتان كانتا كفيلتين بتغيير مجرى حياتهم " الموت و لا المذلة "
سمعتهما مريم هادرتين من بعيد ، اقتربت الحناجر من المنزل وازداد علو الأصوات ، الخوف جمد حركتها أطلت من النافذة والدموع تحجب الرؤية عن عينيها , لم تفكر أهي دموع فرح أم دموع حزن ! ،
تذكرت أنها بكت وضحكت في آنٍ واحد ، بكت عمراً من الخوف شهدت جنازته اليوم , وفرحت بالمولودة الآتية المسماة "ثورة "، خافت مما سمعته عن أطفال درعا . وفرحت بما سمعته عن حرية موعودة وعيشة كريمة .
رويداً رويداً بدأت مريم تنتصر على الخوف المزروع في الأعماق , وتدندن في مخيلتها " الموت ولا المذلة " " الموت ولا المذلة " أعجبها اللحن والكلمات ، وهمهمت بصوت خفيض وعيناها تنظران برعب إلى الجدران " الموت ولا المذلة "،
ولم تدر إلا وصوتها وقد ارتفع مع جوقة المنشدين , لتتركها أصوات المنشدين بعد أن ابتعدوا عن منزلها ، وتبقى لوحدها وهي تصرخ "الموت ولا المذلة" ضحكت بغبطة ,وتابعت أعمالها في المنزل بعد أن استساغت طعم الحرية ..
مرت على تلك الحادثة أسابيع كانت تصلها اخبار من خرجوا ليقولوا "الموت ولا المذلة" فوهب لهم الموت ، قتلهم من يريد إذلالهم مستخدما أسلحة كاتمة لصوت الحرية .
لقد وصلت إشراقة ترانيم ألحان الحرية إلى الظلمة فخافوا على قصورهم الكرتونية من هذا الحريق الآتي ، فوجهوا اليه خراطيم حقدهم ولؤمهم يريدون إخماده.
أما في صباح ذاك اليوم (يوم التشرد والضياع) وبعد ليلة مظلمة أرخت سدولها على الجميع ،وكانت آخر ليلة لها مع الأمان في منزلها المتواضع الذي أضحى خلال فترة قصيرة دون ماء وكهرباء ، تتذكر مريم كيف أيقظ زوجها أحمد ابنتهم " ريما " قال لها هيا ابنتي إلى الفرن نريد أن نحصل اليوم على خبزنا , كفاف يومنا ، يحب أن نأخذ مكاننا مبكرا في الطابور ليحصل كل منا على عدة أرغفة تسد الرمق وتبعد أشباح الجوع .
وتذكرت النظرات الاخيرة لابنتها وهي تسرح لها شعرها على ضوء الشمعة , كما اعتادت أن تفعل قبل ذهابها إلى المدرسة ،
كانت" هيفاء " تذهب كل يوم إلى المدرسة لتتعلم , وباتت اليوم تذهب كل يوم إلى الفرن لتعيش ،
تفكر مريم وهي تودع بعينيها ابنتها أهذه مكاسب الإصلاحات التي وعد بها الرئيس في خطابه الأخير! ، ام التطوير يكون عبر انقطاع الكهرباء والماء , وانعدام الأمن والأمان ، تتمنى لو تصل إليه لتقول له : أقبل يديك ....كفانا اصلاحات !
في المنزل هدوء قاتل بانتظار أرغفة الخبز، يقطع صمته دوي إنفجار هائل ، ويلمع ضوء يحيل الفجر إلى نهار, تتبعه لحظات سكون , تقطعها أصوات الألم وصيحات الرجال وعويل النساء ،
لقد قصفوا الفرن! .....
قذيفة من طائرة تحمل علم الوطن أفرغت حمولتها على أبنائه !
هكذا تعالج الحكومة أزمة الخبز بالقضاء عليها قضاءً مبرماً .
لم تصدق "مريم" ما سمعته هل يعقل أن يقصفوا الفرن ! ...
خرجت إلى الشارع تبحث عن زوجها وابنتها , عبر الدخان وبين الرماد ، لم تعد تسمع عويل النساء, ولم يعد يهمها صيحات الرجال ، مجموعة من الشباب شباب الحي عرفتهم من وجوههم شبانٌ عاديون, تحولوا أمامها اليوم إلى رجالٍ أشداء ، صرخوا بها وفي الجموع ... اهربوا انهم آتون ...
يريدون أن يرتكبوا مجزرة هنا ,كما فعلوا في الحي المجاور قبل اسبوع ! انجوا بأنفسكم وبأولادكم . المغتصبون قادمون !
في تلك الفوضى يئست " مريم " من معرفة مصير زوجها وابنتها , وتيقنت أن الموت كان لهم بالمرصاد ، خاصة حين علمت أن جميع من كان على الدور أمام الفرن قد تحول إلى أشلاء ، ولم ينجُ أحد من قذيفة حصدت عشرات القتلى , وخلفت العشرات من الجثث المتفحمة ،
عادت مريم كسيرة خائفة ناقمة, تجر ذيول الخيبة والحسرة والألم ، عادت جثة دون روح تجر أذيال الحيرة والحزن, لتبدا استعداداتها للهرب.. للهجرة والرحيل
ماذا يمكنأن تحمل معها إلى المجهول سوى بقايا صور الذكريات ، لململت بعينيها صور الغسالة والثلاجة والفرن والتلفاز الذي لم يسددوا قيمتهم بعد ... ودَعَتْ المنزل والمبنى والشارع والحي ،كما تودع المرأة حبيبها الذاهب إلى المعركة ،
لم تكن واثقة أنها ستشاهد تلك الاشياء والأماكن مرةً أخرى ، ولكن توقعاتها خابت ,فقد كان لها لقاء بعد أيام مع صور تلك الاماكن على التلفاز وفي الأنترنت , وكانت الأماكن مليئة بالأشلاء والقتلى والأجساد المحترقة والأبنية المهدمة ، حمدت ربها أنها لم تصبح جزءاً من تلك الصور.
منذ أن رحلت مريم عن حياتها الآمنة في منزلها المتواضع وحيها الفقير ، صادقت الذهول والبكاء والخوف والعويل, ولم تعد تسمع الى عن القتل والانتقام , الركام والدمار والدماء , الجرحى والشهداء ، قذيفة الفرن أودت بحياة 100 شخص بعضهم لم يتم التعرف إلى أشلائه ، ولم يبقَ لها من عائلتها , سوى شعرات تركتها ابنتها على ثوبها وهي تسرح لها شعرها تسريحة الوداع .
لم تعد تذكر أسماء شباب الحي , ولم يعد ذلك مهما فقد تركوا أسمائهم خلفهم وأضحوا جميعهم يمتلكون اسما جديدا هو شهيد .
أيعقل ان كلمة حرية قادرة على حصاد آلاف الشهداء, وتدمير أحياء ومدن ، أيعقل أن يكون كل هذا رداً على مؤامرة كونية سلاحها الكلمة وجنودها الفقراء, لماذا يترك الموت اللصوص وأصحاب الكروش .
غياث أتى اليهم بوردة بيضاء, فردوا عليه برميها مع أحشائه الحمراء على الرصيف.
القاشوش غرد لهم بصوت رخيم ،أغنية عذبة , فإنتزعوا منه حنجرته ورموها في النهر.
حمزة الخطيب ذهب إليهم ببراءة طفولته يستجدي مستقبله , فنكلوا بجسده وأعطوه الحرية الوحيدة التي يمنحونها ...الموت !
تساءلت مريم : ألا لهذا الليل الطويل من نهاية ! لتبلج شمس الحرية !
هل تصبح ذات ليلة على وطن ؟ ام ان هذا الليل سرمدي .
غريب أمر هذا الشعب المستكين , كيف أصبح يفضل التشرد في الخيام على العيش بذل في المدن والحارات .
شعب كان يخاف مواجهة جبروت عنصر أمن ، فبات يواجه الطائرات والبراميل الحارقة ،
شعب يفضل الموت على المذلة وهو ينشد :
لا نريدك حتى لو تذبحنا بأيدك ،
لسنا نعجة من نعاجك ، ولسنا عبداً من عبيدك .
شعب يتحدى العالم وقوانينه وخططه وتحليلاته واستراتيجياته ومصالحه !.
في إحدى الأمسيات , وفي المخيم الذي آلت اليه بعد رحلة عذاب ، كانت تشاهد التلفاز، وفجأة وقفت وعيناها جاحظتان , و صرخت صرخة عظيمة, حسب من حولها أن مساً من الجنون أصابها ، ركضت إلى الشاشة وهي تتلعثم وتبكي وتصرخ , لم يفهم أحد ما حدث , قالت وهي تشير إلى فتاة صغيرة تنشد قصيدة على شاشة التلفاز .
هذه إبنتي ..
إبنتي "ريما "
"ريما عايشة" "
ريما ما ماتت ....
يا حبيبتي يا ريما ...
وأجهشت في بكاء شاركها فيه الجميع ,
كل مهجرة منهم فتحت دفاتر ذكريات آلامها ومعاناتها , وانخرطت في بكاء مرير .
مقابلة ريما على التلفاز في مخيم لاجئين كانت هدية ربانية .
في الأيام التالية استطاعت " مريم " أن تحصل على رقم هاتف وما إن رن الهاتف حتى حمل إليها مفاجئة صاعقة .صوت أحمد زوجها !
مريم لم تعد تحتمل كل هذه المفاجئات ... أيعقل أن تعيش أشهرا على الذكريات تبكيهم , وهناك من على البعد هم يبكون ذكراها ! .
أحمد في ذلك الصباح تم إسعافه إلى إحدى المشافي الميدانية مع ابنته التي لم تصب إلا بخدوش , وعولج هناك , ولما استيقظ من غيبوبته علم أن البناية التي كان يقطن فيها أصبحت أثراً بعد عين وسويت على الأرض ، فالبراميل المنهمرة من الطائرات ، لا تبقى ولا تذر، تيقن أن زوجته استشهدت , فتابع تشرده وهربه من الموت شمالا ليستقر وابنته في إحدى مخيمات اللجوء بتركيا .
على الهاتف إجتمعت العائلة مع البكاء والنحيب على وطن دمره مالكوه على من فيه, وحولوه إلى لعبة آتاري , يلهو الجميع في مجرياتها على أمل انتصار زائف ،