أيام ويأتي يوم الرحيل ...أيامي في هذه الحياة باتت معدودة. يقولون أن الرحيل مؤلم ولكني انتظره بشغف وترقب , فالآلام التي أكابدها لن تقارن بألم الرحيل
بدا العد التنازلي لأيامي, وبدأت الامي تستعد معي للرحيل وكذلك أحزاني وذكرياتي .
مستلقية في سريري . و النوم الهارب عن عينيي منذ أيام يبدو انه رحل أيضا ولن يعود .
خطى يوم جديد تعلنه المآذن الأربع للمسجد في حينا ,
تدخل أصوات المؤذن دون استئذان إلى غرف بيتنا فتضمها جدران هذا المنزل ,وتتناغم مع سكانه الأحزان والآلام رفاقي الدائمين في سنواتي الأخيرة .
الآذان ليس صوتا غريبا, بات كأصوات القذائف والطائرات والمدافع والرصاص زائرا يوميا تداعب هذه الجدران حتى بات ضجيجها اليفا كصوت البائعة المتجولين وأبواق السيارات .
نعيش هنا حياة الصمت والشرود والذهول والحزن , ونكران كل ما نسمعه ونراه ,
الأحاسيس باتت نقمة في هذا الزمن الموبوء ,
أحاسيس اليأس والعجز تتحكم بحياتنا بدلا من ان نتحكم نحن بأحاسيسنا .
كل شيء اصبح لا لون له ولا طعم ولا رائحة إلا رائحة الموت وطعم القهر ولون المعاناة .
حياة رتيبة أمضيها بمفردي , يزينها وجود "دينا " جارتي الحميمة , وابنها ورد كوردة في صحراء حلب ,
وبين الفينة والفينة صوت أخي الروماني " مازن " يعيد إلي ذكريات الطفولة , وأيام السلم والرغبة في الحياة , يخبرني عن حلمه بالعودة وبانتهاء الأزمة, وعودة الإنسانية والضمير إلى البشر , وعودته للقائي واسترجاع ذكريات طفولته .
بوفاة والدتي خرج "مازن " هربا من وطنه الذي قتلت مشفاه والدته , خرج قبل أن ينتقموا منه حين امتشق سلاح الكلمة وجرده في وجوههم قهرا وإنصافا لوالدته الشهيدة (خطأ طبي) ,
خشي والدي على ابنه الوحيد من أن يصبح نسياً منسياً فجعله مغترباً .
وفي زمن غربته توفي والدي وتوفي الوطن, وعم الظلام ونعقت الغربان ,
وأصبحت حلب مدينة الأغراب. وازدهرت مدن الأعراب الفاجرة ,
وباع البشر انفسهم للشيطان بعد أن أبيحت دمائهم وبيعت أعضائهم وسبيت نسائهم , والقي بمصيرهم في سلة المهملات,
وفي زمن غربته شرب الجميع شراب الخيانة من كؤوس العمالة , وهاجرت القيم والأخلاق, وفاحت رائحة العفن الأخلاقي من حولنا .
وانا بقيت هنا فأضعت عمرا ودفنت أحلاما, وقريبا سأرحل في صمت ولن يعرف "مازن " بموتي الا من غيري , سأرحل وانا اكتم في صدري شوقا للقائه ومعانقته ووداعه .
سأرحل وحيدة كما عشت وحيدة , قضيت هنا حياتي الرتيبة منزل ومدرسة وشارع , وصدمات متتالية ببشر كشفوا عن أقنعتهم فانبهرت بحقيقتهم أحيانا ورثيت لحالهم أحيانا أخرى , فاخترت أن اصمت . وقررت أن انتقل للعيش خارج اطار هؤلاء البشر, فلم كان امتلك القوة والبأس لأعيش بينهم وأكون واحدة منهم
محاولاتي لاكتساب صفاتهم, والتي كانت فاشلة على الدوام , أكسبتني التعب , لاضطراري لاتخاذ قرارات يصعب تنفيذها , ولكنني قررت مؤخرا أن لا أعيش على هذه الأرض الملوثة , وانتقلت لأعيش في مكان اخر حيث الحب والعدل والخير, تركت خلفي التعب والشقاء , الحزن والبكاء , اليأس والمعاناة , خلعتهم على شواطئ الرحيل ودخلت بحر الوداع دون قهر
تعبت حتى توفيت من التعب وأصبحت جثة هامدة وذكرى طيبة , ماتت حروفي ورحلت كلماتي عن مسرح الحياة .