أصدقائي الألداء في الغربة كم أتمنى لو أتقيأ في وجوهكم!لأرد لكم ولها بعض الدين الذي نضحت به.بهذه العبارة المقرفة بدأ "سليم" كتابة رسالته من على سرير المشفى وهو يتذكر المواقف غير النبيلة لبعض أصدقائه العرب في رومانيا بعد أن علموا ما ألم به من مصاب .
ورغم أن البعض في هذا المشفى عامله باللغة الدارجة لغة المادة والمصلجة، ولكن "سليم" كان سعيدا بمعاملتهم، ولم يفكر حتى أن يكتب عن سرقاتهم وفسادهم وقلة حيلته، ربما لأنه يدرك أن أحدا لن يتجرا ويقرا له، أو أن قرائه سيعدمون أفكاره الهاربة ويمنعونه من أن يطال الموز في القفص، ولاحقا سيتم مرمطته بكل كفاءة! ليكتشف اخيرا انه ليس بطلا .فالسكوت من ذهب، والأشجار تعيش طويلا لأنها لا تتحدث إلا عن عمرها .
المشكلة في الضمير العربي انه حي عندما يتعلق بنقد الآخرين، ونائم حتى الموت عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الشخصية، فنحن نحتقر ونسلخ الأشخاص الذين يرتكبون نفس الأخطاء التي نرتكبها ونشعر بالسعادة لارتكابها.
ورغم بعد زمن هجرته عن الوطن إلا أن غبار الوطن لا يزال متغلغلا في ريش أجنحة الفؤاد، ولا تزال بقايا نكهته بين أسنانه، و لا تزال ذرات هوائه ساكنة في رئتيه.
ولان أصدقائه كانوا بقايا وطن عشقه، وأمل في الانتصار لقيم رضعها، وممارسة لأخلاق ترعرع في حناياها، فقد ألمه أنهم كتبوا كرههم لبياض الورق بمداد سواد القلوب، وراعه أنهم يهربون من الخير كما تهرب خفافيش الظلام أمام نور الحقيقة .
في البداية تعاطفوا مع معاناته ...وأشفقوا على ماسيه... وتباكوا لحزنه، وحين هدأت العواصف، وخلد تعبا إلى شاطئ الآمان، راعهم رحيل مصائبه، وضاقت صدورهم بفقدهم لذة الاستعلاء على آلامه.وخشوا أن تنهي بسمته فرحهم بمصائبه ! فاستحالت ألوانهم الحربائية إلى لون الحقد والغل.
بدوا عمالقة من بعيد! وحين اقترب منهم ذهل لصغر حجمهم. فقد تقزموا أمامه حتى التلاشي. !
كانوا أنبياء على المنابر، وبعد أن هبطوا منها، أصبحوا وحوشا كاسرة لا ترى حولها إلا فرائس تنهشها.
عرفهم رحماء، عطفاء، حين كانوا يتحدثون وعندما بدأوا يفعلون، خلعوا أحاسيسهم على أبواب مصالحهم كما يخلعون أحذيتهم قبل النوم بعين قريرة.
أصدقائهم الجشع والطمع، وندمائهم الاستعباد والاستغلال. وعلى موائدهم ولائم الأنانية والمصالح. كتاب مقدس على يمينهم، وشعارات المرحلة على يسارهم، والشر لا يفنى فيهم حتى وان قبروا. لا يخجلون من فعل العيب وإنما ينتابهم الخجل حين يكتشف عيبهم الآخرون.
تحسبهم أغنياء بما يمتلكون، وبالكنوز التي على ظهورهم يحملون. ولكنهم فقراء الأخلاق ومعدومي القيم يرفضون الإذعان للحب والرحمة والتسامح لأنه يفقدهم وجودهم وأملاكهم.الحب لديهم أضحى كالزائدة الدودية حين يؤلمك فعليك باستئصاله فورا.
يبحر "سليم" في أروقة الذاكرة ودهاليزها فيحذف منها ما يمكن حذفه، يخلع ذاكرته كما يخلع ساعته قبل النوم, يفتش في خرابيش الطفولة عن صديق، عن طريق ضم جسده ويتعب فيخلع آماله، وحذائه ويختبئ في أعماق السرير.
يطرد الأحلام فالأحلام بإنسانيتهم كانت جرعات مخدر أدمنه حتى ورط نفسه في قضية خاسرة هي قضية وجوده مع أمثالهم.
توقف الدم عن الجريان لثواني معدودات كانت كافية لتوقف كل المصالج، ولتراكم الأحقاد وفواتير الاستحقاقات . قالوا له يبدو أن في حساب عمرك لا يوجد رصيد كاف, فبدأ يشرب وجعه المعتق حتى ثمل من الألم .
"سليم" كان مشروع أديب ضل طريقه في ردهات العمل، أفكاره تلقح بويضات الصفحات فتخصبها لتصبح مولودا جميلا يأخذ مكانه في عائلة الكتاب، بعض الأفكار تضل طريقها والأخرى تموت مضغة أو علقة أو تولد مجهضة.وحين ألقى ملابس الكلام تعرت النفس . حقن نفسه بمصل الموت. فاكتسب مناعة العيش.
كان يحب التقرب إلى الأنبياء ، فهم كما يرى خيرة الناس. أرسلهم الرب بسلاح الأخلاق والقيم والمحبة والتسامح والكلمة ، ولم يرسلهم بالمال والجاه والعتاد. ،كان يدرك أن الثروة هي العقل والروح، جتى التاريخ حين يتكلم فانه لا يحدثنا عن أصحاب الثروات والأملاك، وإنما يحدثنا عن أصحاب الفكر.
وعليه فان روح وأخلاق وكرامة الإنسان لا تثمن لأنها اغلي من أي شيء . ولكنهم ابلغوه أنها رخيصة لأنها موضوع روحاني لاقيمة مادية لها ؟ وان جميع ما يملك منها يباع في سوق النخاسة.
لذلك فقد رحل من قربهم بصمت مؤلم، رحل لكي تعود إليه مشاعر الغبطة والسرور. فبعيدا عنهم تخضر أرض القيم والمبادئ، وتزهر وتثمر وتعود نبتة الحب والإحسان للامتشاق. ويأخذ العدل والمساواة مكانهما.
رفض إلقاء وحشيتهم المتزندقة. في سلة مهملات القسمة والنصيب، فسليم لا يفهم الحب بدون تضحية، ولا يدرك كيف تكون الزكاة دون أموال ، ولا برى تحقق الإيمان دون اله الخير، ولا يفهم مجتمعا يعتمد على اللعن والطعن . و يمسك فيه مفاتيح الثواب والعقاب من يحفظ كتابا وبعض جمل، مريدوه يبتهلون خوفا من العذاب أو إرضاء لمن حولهم.
هرب "سليم " من محيطهم واكتفى بان يقول لهم : رغباتكم لن تطفئ تمردي ، الصديق تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر لذلك تحولت حقولكم إلى مزارع للأشواك .فأراضيكم مالحة لا نيت فيها ولا زرع .زمن الطيبة والمحبة لم يمت وإنما هاجر من أراضيكم ونزح من مدنكم بعد أن عانى الجوع والعطش وأصبح دون مأوى.فالحقيقة يا أصدقاء اختارتهم لي غربتي ، اكبر من أن تحدها جغرافيا الأمنيات، وان تغطيها حمم الشهوات، وان تحجبها غرابيل النفاق .
حتى الحشرات مافتئت تتسائل عن سبب سحق الإنسان لها، وهي تقطن الأرض قبله حتى ملت من الإجابات غير المقنعة (القرف - التوازن البيئي – التقزز – المزاج ) ولذلك قررت أن تعيش وتقاوم ، لا أن تتساءل .
يطفئ "سليم" شمعة أحلامه كي لا يلعنه الظلام، ويعزف على أوتار الصمت الحان النوم ، في الخارج السماء تبكي فقدان الخير مطرا منهمرا ودموعها تزيد ملوحة البحر.
سويعات وتبدأ أشعة الشمس بالبحلقة بعينيها الناريتين في فراغ الأرض، فيطرد نورها خفافيش الصور الشعرية من مخيلته، وتنسج خيوطها على المغازل نسيج حكايات تخيطها بإبرة عاقر لم تحمل خيطا ، تثقب قماش الذكريات دون أن ترتقه .