في المعتقل الصحي

قصص
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

في المعتقل الصحي لم يكن إلى جانب“عمرو”سوى والدته المرحومة،والمرحوم والده. غربة في غربة! اليوم لم يزره في المشفى احد من الأصدقاء والمعارف, يبدو أن تكاليف الحياة قد أنستهم وجوده ،ولكي لايبقى وحيدا فقد اخترع  زوارا من بنات أفكاره وجيرانهم، الذين وهبوه وقتهم، وعواطفهم، وأمنياتهم، وسهر معهم حتى مطلع الفجر .

الممرضات حوله كمحظيات هارون الرشيد، ولكنه  لايملك ما يمنحهم سوى الابتسامة ،

الأحلام غفت، والأماني نامت، وواحات الفرح كانت  سرابا .

لم يختر أن يسجن نفسه في مملكة الألم، ولكن جلاد المرض حكم عليه بذلك، عاش غريبا ويبدو أنه سيموت غريبا.

عشق الانتظار...فحياته كلها كانت محطات انتظار لقطار أحلام غير خط  سيره المعتاد، وهاهو الانتظار يصادقه اليوم، فينتظر في المحطة  هنا، موعده مع الموت.انتظره مرحبا، ولكن الموت اعتاد الغدر! لم يأتي إليه في ذلك المساء، واختار بدلا منه – رغم انه تحداه وفتح ذراعيه لاستقباله-رجلا كان يقبع بجواره، وأخذه  معه في رحلته المسائية ،وتركه ينتظر في الغرفة مع بقايا أحياء يقاسمونه الهواء، و الأمنيات، والآمال .

ربما لو خُير لاختار الرحيل الأبدي من هذه الأرض الموبوءة بجراثيم المال، وفيروسات الغرائز، لذهب معه راضيا مرضيا، داخلا جنات موعودة.

 وكما ودع  في بلده يوما ما أحبابه وأصدقائه حالما متأملا بالعودة إليهم، ودع اليوم  في تلك الغرفة  أحلامه وأقلامه .

لم يكن بإمكان-عمرو-  التقدم في المستقبل ورؤية الآتي،فقرر العودة بسنواته إلى الوراء، وبدلا من هجرته إلى مملكة الصمت، قصد وطنه عبر رحلة في مملكة الأشباح والذكريات.

فاجتر ذكريات أهله هم من علمه الصدق في زمن الكذب.الوفاء في زمن الخداع.الخير في زمن الشر.الحنان في زمن القسوة.الرحمة في زمن الظلم.

خاطبهم قائلا  : سامحكم الله فقد ولى زمن الأنبياء .

واجتر ذكريات  أصدقائه   كانوا دائما يلومونه على طيبته, ويخبروه بان الحياة معركة, وان الدنيا غابة بشرية, ومن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب .قال لهم  : الحمدلله عشت حياتي بكل أبعادها .الطهر والبراءة والمحبة والتسامح والأمانة والصدق كانوا زملائي, والندم لم يعرف يوما طريقا إلي روحي .كرهت  أكل لحم أخي ميتا .

واجتر ذكريات من اختاروه ليكون عدوهم .الحاسدون حاولوا نثر الأتربة السوداء على ثوبه الأبيض، ولكنه وعلى الدوام كان دائما  من يتقبل الإساءة دون أحقاد,ويكتم جبالا من الغيظ, وينشد المثالية الصوفية في طباعه وأخلاقه, وكان  دائما من يوصف حتى من قبل الدهم عداءً بالأمانة والأخلاق السمحة وحسن العشرة وعمق التفكير.حدثهم  : اليوم سأرحل عنكم,فقد آن موعدي مع فراق الروح الأبدي,وغدا ستُزَورون التاريخ كعادتكم,كما فعلتم مع معاوية وعلي.

بعتم أخلاقكم واشتريتم بثمنها ثروات,عقوقكم فواتير تسلمتها لطمات على وجداني.كوني مصاب بجذام الحق، لا يعطيكم الحق في إعدامي على مقاصلكم ،كوني لا أوافق على آثامكم ، لا يعني أني مزجور، مجلود، مذبوح.

نحرتموني ولكنكم  لم تحسنوا الذبح .بصركم ارتد حسيرا كسيفا.

رقة الوحوش التي ترسمونها على وجوهكم  تجعلني امكث في عرين الألم, وفي داخلي آهة وحسرة وصرح من التوتر، وصبر يحرق القلب, وحروف دامعة تجعل الوجع يئن ألما.

حاملوا المال  كعادتهم  يتنافسون على قهر من لا يحوزه, فماسي الحياة يتربع  حطب المال على عرش أسبابها، وانتم يا من لعنتكم جميع الأديان  لستم سوى إمعة حمالين للحطب.

أقول لكم اليوم  ومن سرير العبور إلى عالم الموت,لستم سوى مهرجين  في سيرك السلطان,وهمكم الوحيد هو إضحاكه على خيبتكم ،وقلة حيلتكم.

وأقول لجميع عملاء الدنيا وجامعي ملذاتها... أبشركم بالرحيل الأبدي.

عاد "عمرو"  في رحلته من مملكة الأشباح والذكريات  إلى غربته ومعتقله وغرفته، والسرير، عاد إلى جسده الذي عروه من الثياب، استعدادا للرحلة القادمة.

بعد خبرة  45 عاما من القتال المستمر، لكسب معركة الحياة وجولاتها,يلهث بزفرات عبرت صحراء المرض فازدادت جفافا.

قفصه الصدري يَسجِنُ ظلما أنفاسه وأحاسيسه فيتأوه بصرخة معذب مظلوم,  ويبصق العالم من فمه، كما يبصق علكة فقدت حلاوتها.

الصمت في الغرفة يرخي سدوله على الجميع، لا طعام، ولا شراب، لا هواء، ولا رفيق إلا الألم والأمل.عيناه  تطلبان النوم، و جسده يكافح ليرى نور الغد، ينام تعبا  محدق العينيين في شمس آفلة.

قطرات المحاليل في الوريد،كقطرات الري بالتنقيط ، يعد على رتمها دقائق الليل الراحل ،فتساعده على عبور جفاف صحراء المرض.

وبعد ليلة صارع فيها القلب أمواج المرض ،فاستسلم لموجة قوية أرست قاربه المهترء على شاطئ الموت، استعد  للنوم الأخير .واستعد جسده  للتلحف بالشر اشف الترابية.

في تلك الليلة عايش عمرو  مخلوقا غريبا، له طعم ونكهة ورائحة خاصة لا هو الموت ،ولا هو الحياة . أمانيه نامت فصحت على صوت أنينها، وجعه انتحر في مقلة الصمت، فلم يصرخ دمعا، حروف غضبه أغلقت معابر الكلام، فسكب نفسه فكرا على صفحة الوجدان، فما يكتب بشجن يقرأ به !

الصبح يتنفس, ويطل بستائره البيضاء خيوطا تملأ فراغات الغرفة, اللون الأبيض ينتصر على كل مقاييس النبض و التنفس والضغط، الموت يغادره مودعا واعدا بأنه يوما ما قادم لا محالة، ليسدل أستاره السوداء  على الفصل الأخير من مسرحية الحياة.

ريح الموت  ستمزق الأشرعة، ورغم العرق الذي سيبذله الأطباء والممرضون، فان النصر سيكون حليفه.ويوما ما ستكون آخر الكلمات :

بل الرفيق الأعلى .

يا موت يا موت .

هذا ما جناه علي أبي ولم اجني على احد.

اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.

صفقوا أيها الأصدقاء … لقد انتهت الكوميديا.

لقد حاولت بشدة أن افعل الصواب.

اعلم انك جئت لتقتلني… أضغط الزناد أيها الجبان، فلن تقتل إلا مجرد رجل.

الموت سيكون  صديقا مخلصا بعد الحياة.لأنه الوحيد الباقي بعد أن يغادر الجميع، لذلك علينا  أن نعتاد صحبته، نحن في هذه الدنيا عابروا سبيل  وأشدنا ذكائنا أكثرنا إحساسا بالغربة .سواء  امتلكنا غربة الضياع، أو غربة الطريق, فنحن مسكونون بالرحيل، لا وقت لدموع الغربة والحنين, لا نفع  لدموع الهزيمة أمام قلة الحيلة .

ثلاثة أيام مضت في هذه الغرفة الحميمة، كانت دقائقها أعواما.وفي اليوم الأخير لبس "عمرو"  جسده من جديد، وخرج  من المشفى  إلى غربته التي اختارته واختارها .تاركا الألم مصطحبا الأمل، متمنيا للجميع طول العمر والبقاء .وهو يعلم يقينا صعوبة تحقق أمنياته