وداعاً ياوطناً يسير إلى حتفه

قصص
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

رحيل ...

دموع  مغرورقه بألم الفراق ,  تمتزج مع بسمة أمل الخلاص , ترتسمان على وجه الأم السموح , وهي تودع ما تبقى من أبنائها  , ابنها المهاجر إلى أوروبا  بعيدا عن بلاد القتل والدمار والذل والهوان  , قائلة له "أسألك الرحيلا"!

قبل عدة  أشهر قرر "زيد "  الهروب  من جحيم مدينته المكلومة  , فبدأ  يخطط ويجمع   المعلومات والأموال اللازمة لرحلته   , وامتلأ خياله بتوقعات ما قد  يحدث له . الهروب من الجحيم له طرقه و مخاطره , كالوقوع في شباك النصابين صيادي الفرص , أو الموت غرقاً  وفقد المال والآمال.

عاش أياماً من القلق والترقب ,والخوف الممزوج بالأمل قبل الرحيل , وكانت أيام سباق مع الموت المرفرف  بأجنحة  الطائرات و ما تحمله من براميل  , أو معلقا على خبطات قذائف الهاون العشوائية السقوط ,  أو حتى  انتقائياً برصاصات الحواجز العمياء , هجرته لم تكن من أجل البحث عن فرصة عمل إنما كانت هربا من سكاكين الأقارب , وجرات غاز الأهل , وصواريخ وبراميل المجرمين.

لاك واجتر وحلل ودرس  جميع أنواع الهروب , ابتداء من الهروب بالحلل * مرورا  بطريقة عبور الحدود ليلاً تهريباً **  وكون ليس لديه المال اللازم لشراء جواز سفر أوروبي  مزور لرحلة آمنه   *** فقد قرر أخيرا الهجرة إلى بلد عربي  ,متسلحا بشهادة أفنى شبابه لكي يحصل عليها .

  • طريقة لعبور النهر إلى تركيا في قدورة كبيرة   تتسع الحلة ل10 أشخاص وتربط حبل يجره على جانبي النهر شخصان  تقطع الحلة 14 متر  مع احتمال انقلابها أو قصفها.
  • طريقة التهريب عبر الحدود بالتسلل ليلاً وفق طرق يعرفها دليل مهرب محترف, وبعيداً عن أعين الحراس ودوريات حرس الحدود. أو الاختباء ضمن شاحنة تحمل البضائع .
  • طريقة آمنه ومكلفة تقتضي بإيجاد وثائق شخص( أوربي )  قريب بالعمر والملامح,  ويسافر حاملها بالطرق النظامية, وغالبا بالطائرة عبر بلاد لا تتكلم لغة الوثائق الأصلية, وحين وصوله للبلد المرغوب يسلم الوثائق الأصلية  .

الطريق إلى خارج الوطن كالولادة المتعسرة , مخاض وآلام ومخاطر ورهبة ,ولايزال يذكر في الطريق إلى دمشق ... ذاك الفتى اليافع الذي لم يتجاوز عمره ال14 ربيعا وهو ينظر اليه بشك متأبطاً سلاحاً بطول قامته , ويقول له : هويتك مزورة !   ....  وكيف طلب من رفاقه اعتقاله. دقائق كاد " زيد " يهوي من اليأس والقنوط والإحباط ,لولا أن أحدهم نادى الفتى الذي هرول مسرعا ونسي أمرَه .

بخروجه إلى الأردن آمناً سالماً, ودَّع "زيدُ " وطنه  بكلمات وداع هدرت بها حنجرته مع حشرجة القهر والبكاء تنساب كالتسريحة على جبين المعاناة قائلاً: وداعاً يا وطناً يسير إلى حتفه, والمجد لكل السفلة على آرض الوطن الذين  سرقوا ثورة كل راغب في الحرية  .

في مصر "أم الدنيا " تمكن زيد بشهادته الجامعية " أدب إنكليزي " من الحصول على عمل كنادل في مقهى متواضع. لم يستمر هذا الحال إلا اشهر معدودة ليتيقن زيد أنه اخطأ الاختيار والمستقر, ولابد له من متابعة هجرته , فهذه الأمة العربية المؤمنة لا ترى في السوري إلا كارثةً وعبئاً عليها التخلص منه  , بعكس الدول الكافرة المارقة التي تراه انساناً مستغيثاً ورصيداً مفيداً للبلاد ,

الإيمان في جميع الدول العربية كلمة تفتقد معناها حين ترتبط بمواطن فقير نازح لاجئ. بلاد العرب أوطاني أدارت ظهورها إلى شعب سوريا, وفضلت أن ترسله في قوارب الموت إلى بلاد الكفر . صمت القبور يخيم على تلك  الدول.

لا أحد يهتم بهؤلاء الأبرياء الذي دفعوا  للمخاطرة بحياتهم للبحث عن ملجأ آمن، بعد اضطهادهم والتنكيل بهم فدفعهم اليأس والقنوط إلى ركوب أمواج الأمل, هربا من  موت محقق  إلى امل في الحياة .هربا من حرب لم يخططوا لها , ولم يشاركوا بها ,. حرب لا ناقة لهم بها ولا جمل , ولكنهم يدفعون ثمنها للحفاظ على مصالح اقتصادية عالمية .

في روزنامة الموت، تصبح كل الأيام في تاريخ الحروب سوداء، مهما اختلفت حيثيات النكبات، وأشكال الكارثة، فالنتيجة دائماً واحدة، خاصة حين  يتعلق الأمر بمصير شعب يرتبط بحق أخير هو حق اللجوء ,بعد ضياع كل حقوقه .

الهجرة إلى أوربا مغامرة يتربص الموت بكل خطوة من خطواتها,  و لا فرق إن ابتدأت من شواطئ تركيا أم من شواطئ ليبيا  , فالبحر كالحكام العرب مزاجي متقلب ليس له عهد ولا ميثاق , تتغير أهواؤه في كل ساعة ,  وعواصفه  لا تمتلك الرحمة كعواصف القهر و الجوع والعطش التي يواجها السوري الباحث عن الامان والكرامة والحرية ,  شواطئ تلك البلاد ترسم يومياً بجثث مئات الضحايا  السوريين لوحة القهر السوري  .

نفس تلك الشواطئ  جزر اليونان وروما وصقلية وبرشلونة  استقبلت  أجداد هؤلاء السوريين (الفينيقيين ) .  أتوها بالحضارة والتجارة والعلوم , تلك الشواطئ التي استقبلت هانيبال اللبناني وأوغسطينوس الجزائري وجوليا دوامنة الحمصية وفيليب العربي الحوراني وزنوبيا التدمرية والمئات غيرهم .اليوم تستقبل أبنائهم كمتسولين! بلد القمح يعيش أبناؤه عيشة الكفاف , بلد الأنبياء يعامل أبنائه بأخلاق الشياطين .

قرر " زيد أخيراً ركوب رحلة العبور  عبور جسر الحياة والموت بحثاً عن حلم في العيش الآمن, سعر الرحلة البحرية من مصر إلى إيطاليا هي  1800 يورو ويمكن أن تصل إلى  3000 يورو بينما تتكلف الرحلة الآمنة 10000 يورو على الطائرة  .

السوريون ركبوا مُجبَرين قوارب الموت،, فكما أنهم لم  يختاروا أن يكون موتهم  برصاصة أو بتفجير أو ببرميل أو بهاون  . ركبوا المياه المالحة التي لا تحلو لذائقها الهارب, بل تُصبح مُرة مثل العلقم . مياه قاسية غادرة لا تأبه لطفل ,ولا ترحم امرأة حاملاً , ولا تحنو على شيخ مسن  .

الهروب ...

عبر حقول القصب ومع الغروب الشاعري  تبدأ رحلة الهروب الكبير  في سيارة لنقل الأغنام, ليعتاد الجميع على حياة الأغنام طوال رحلتهم .  وعلى بعد 2 كم من شاطئ مجهول  يتم انزال الركاب ليهرولوا  نحو عدة مراكب صغيرة تبحر بعد امتلائها مغادرة نحو الشمال والأمل , هربا من الجنوب واليأس , برودة الليل تمنع الجميع من النوم والخوف والحذر والترقب والانفعال تبقي الأعين مفتوحة ,  رويداً يتسلل الصباح والشمس تطرد برودة الليل,  الأمواج أفاقت من رقادها وبدأت تلاعب السفن وتتقاذفها  , انقضى اليوم الأول  سريعا بمشاكل التقيؤ والإغماء والتجفاف والإعياء , والأنانية , وكانت الوجبة الوحيدة التي تناولها الجميع ماء وخبز يابس وجبن مالح ,والكثير من الإهانات والكلام الجارح  من قائد السفينة  !

من جديد يزور الليل المركب الصغير, ويستقبله الركاب بنوم التعب, ومع تباشير صباح اليوم الثاني يصل الجميع إلى مركب كبير لصيد سمك (سيارة لنقل الخراف والآن قارب لصيد الأسماك ) فما هو التالي ؟الصعود إلى المركب الكبير والأمواج يتسببان في إصابات وكسور, لم ينجُ منها إلا الشباب الذين كانوا يصعدون اليه  كالقرود  .

الأمور تسير كما خطط لها زيد وقريبا سيعانق جسده المتعب شواطئ الحرية والأمل ولكن يبدو  أن الرياح تجري بما لا يشتهي السَّفِنُ ...مثل شهير لم يتوقع أحد من سكان  مدينة حلب أن يعيش تجربة حقيقية لهذا المثل الشهير ’ وفي الحقيقة لم يتوقع احد في المركب أن يتخيل ما يمكن ان يحدث معهم ..

حتى زيد المهووس بالتخطيط والدراسة  , كان قد اختار رحلته بعد الكثير من التمحيص والإستفسارات , وأحضر معه  أوراقه الثبوتية  ,وشهادته الجامعية ,وغلفها بالنايلون واللاصق ووضعها في رقبته , كما أحضر معه سترة لإتقاء البرد , وقبعة ونظارات شمسية , وبعض الأدوية , ومرهم للحروق , بالإضافة إلى التمر والماء وبيل ليزري ,وهاتف وبطارية احتياط للهاتف , وقبل الخروج تابع أحوال الطقس,  فاختار أفضل الأيام وقرأ الكثير من المعلومات عن المناطق والمسارات المتوقعة .

وتأكد أن إيطاليا تقوم بإنقاذ السفن في عرض البحر , ولم يركب الرحلة إلا بعد أن تأكد أن  الطقس سيكون ممتازاً  من حيث سرعة الرياح ,وارتفاع الموج, واعتدال الحرارة.   جميع تلك المعلومات  والإحتياطات لم تكن ذات قيمة أمام القضاء والقدر ,والرحلة التي كان من المفترض أن تنتهي خلال أيام ,استمرت لأكثر من أسبوع   . المركب الذي بات يضم 300 شخص أبحر جيئة وذهابا بين المياه الإقليمية المصرية والليبية مرورا بجزيرة كريت , والروتين اليومي كان تناول الحلاوة والتمر ,المربى والخبز والجبن المالح , وبعض السمك والأرز والمعكرونة , والماء بنكهة المازوت  الذي ينتج عن تبريد المحركات.

الفرحة الوحيدة التي اقتنصها زيد  على القارب كانت "لمى " الطفلة التي كانت برفقة والدتها ووالدها ,اللذان  هاجرا من ريف حمص,  فقد اعتاد أن يلاعبها ويمازحها , لينسى الزمان والمكان والماسي, ويضحك مع براءة الطفولة ,وسذاجة الأطفال وصراحتهم .

لقاء مع الموت ...

أسبوع كامل  لم يزر زيد ورفاقه المهاجرين سوى الرعب و شدة الحر , والقيئ والدوار والغثيان , وهزال الأجسام والحالة النفسية المتردية نتيجة   أصوات "الصرير" التي بدأت  تصدر من المركب المهترئ ,والتي ترافقت مع ارتفاع الموج وسوء الأحوال الجوية .

وبدأت الأمور بالتدهور حين بدأت المياه تتسرب إلى القارب في الطابق السفلي,  في البداية كان الشباب يجمعونها ويلقون بها إلى خارج المركب , ولكن ومع اشتداد ارتفاع الموج طغى الخوف على الركاب, وبدأوا بالصعود إلى السطح وبفوضى الانتقال من الميمنة  إلى الميسرة , ورغم أن الركاب هدؤوا  قليلاً حين اقترح عليهم شاب من مدينة حماة  أن يرددوا  القران ورائه ,فبُدِءَ يُسمَعُ أصواتاً خائفة مرتجفة ,مليئة بالرجاء والأمل وهي تردد " لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ.

ربان السفينة اتصل بالصليب الأحمر ,وبخفر السواحل الإيطالي  والمالطي ,وتم إعطائهم الإحداثيات  بهاتف ثريا كان بحوزته رغم مافي ذلك من مخاطرة بأن يتم مصادرة قاربه ( كما قال ) ولكن قسوة الظروف ,وانعدام الأمل ,والخشية من غرق القارب أجبراه على ذلك . بعض الركاب اقترح أن نشعل النار في وعاء الطبخ ,ليصدر دخاناً يدل القوارب المنقذة علينا, والآخر اقترح ان نستعمل  أصابع الليزر التي يحملونها  ليلاً . أحدهم كان يحمل صافرة قال إن الفكرة أتته حينما شاهد فلم التايتنيك ولكن الأغلبية قرروا أن الصفير والصراخ يفيان بجلب الإنتباه للسفن المنقذة القادمة . كان الجميع يتحضر للأمل الواعد ,ولم يكن يتخيل أحدهم أن الساعات  القادمة ستحمل اليهم مأساة لايمكن تصورها .

خمسة عشر ساعة دون طعام أو شراب , الأمواج بدأت تستعرض عضلاتها  ,وتلعب بالسفينة  المصابة ,  وفي هذا الخضم أتى المخاض مبكرا  لامرأة من بين أربعة نساء  حوامل كانوا على متن  السفينة , فوضعت بالسلامة  ذكراً  بعد أن أشرف  على توليدها طبيب تصادف وجوده بينهم.  

بمرور الزمن بات الجميع على حافة الإنهيار, ولكن القارب كان أول من انهار ,  فقد أعلن استسلامه لعاتيات الرياح وضربات الأمواج,  وانكسرت احدى الداعمات الأساسية في السفينة  ليبدأ الماء بالتسرب إلى القارب ...ساعات وانهارت مضخة الضخ ,  وتوالت الأحداث متسارعة دون أن تدع احدهم  يفكر فيما العمل ,  توقف المحرك نهائيا عن العمل,  و اشتدت الرياح وبدأت تلعب بالقارب ,والناس تتمايل معه نحو اليمين ونحو اليسار , وأخيرا وخلال لحظات انقلبت السفينة على جدارها الأيمن, وصدر عنها صوت مخيف , ومالبث أن انقلب عاليها سافلها .,  وخلال دقائق هبطت السفينة إلى القاع  مع  ركابها , بعض الركاب المحظوظين طاروا في الهواء بعيدا عن السفينة  وحطامها , فتلقتهم مياه البحر.

الغرف المغلقة في السفينة كانت مصيدة لنازليها ,اذا أن ضغط المياه على الأبواب من الخارج منع فتحها  ..ومن كان في الممرات لم يستطع النجاة,  ومن كان على الطرف الأيمن أخذه القارب معه إلى القاع,  أما من كانوا على الطرف الأيسر فقد كتبت لهم النجاة  . الكثيرون ممن يعرفون السباحة ويرتدون ستر النجاة لم يحالفهم الحظ بالنجاة , والبعض ممن لا يعرفون السباحة نجوا . زيد كان واحد من هؤلاء المحظوظين  .

الدقائق الأولى من غرق السفينة كانت كيوم المحشر, الجميع  يتخبطون في المياه الهائجة , وكل منهم يبتغي النجاة لنفسه , لم تعد عينا زيد ترى أي شيء سوى الموت الآتي , وفكره توقف عن العمل, معتبرا أن كل ما يحدث أمامه هو كابوس لا يلبث أن يصحو  منه قريبا  ..بصعوبة وجد زيد قطعة من الخشب  , تعلق بها سارت به بعيداً عن الحطام لتعطيه فرصة للنجاة ,و للصفاء الفكري , بدأ  زيد يسترجع ذكريات حياته ,وهو ينظر إلى السماء ,  وينتظر ملاك الموت على وقع آيات من القرآن يتلوها ويكررها ,مقتربا  من التسليم بقضاء الله وقدره. جميع الناجين  من حوله في اليم  كانوا  ينظرون  نحو  الأفق آملين الرحمة من السماء, أوسفن الإنقاذ من البحر .

الكارثة البحرية وفق الإحصائيات الرسمية أودت بحياة  250 شخصا قضوا في تلك الواقعة الأليمة، دفنوا لاحقاً في مقابر إيطالية متعددة بعيدا عن التراب الذي ولدوا وتربوا فوقه، قبل أن يهجِّرهم الطاغية.

حول زيد كانت المأساة اكبر من أن تحتمل ,  أشخاص يصارعون الموت يسبحون ويتعبون ويموتون ,و يطفون أو يغرقون  , ساعات  من الإنتظار في الظلام, الأصوات بدأت تخمد من التعب .مع ازدياد برودة المياه وارتفاع الامواج .

ينظر  زيد من حوله   فيرى شاباً يبلغ ال15 من العمر عيناه تتحدثان عن الرعب والخوف والقلق   .... رجل وزوجته يتهامسان متماسكين  .... طفلتان تبكيان وهن تتعانقان, بينهما  قطعة من القارب .

يتسائل ما الحكمة في أن  يشهد العالم كل هذا الموت ويبقى صامتاً، أَلم تصلهم صرخات السوريين التي  اخترقت السموات السبع  وهزت الفضاء,  كل الذين غرقوا في المتوسط هربوا من الموت بنار الحقد والكراهية، ليموتوا غرقاً في بحر حسبوا أمواجه أجنحة تحملهم إلى حيث الأمان والاطمئنان، إلا أن ظنهم خاب بفعل  تجار الموت.

يلاحق زيد ذكرياته متمسكاً بها  كما يتمسك بخيط بالون  ويحلق معه متسائلا ماذا أفعل هنا ؟ أأكون أنا طائر الفينيق الذي يحترق ليولد من جديد .

في الرمق الأخير  وقبل الإنهيار بدقائق , وصلت إليهم بارجة حربية إيطالية , أنزلت قوارب مطاطية ,مُنقِذَة ما تبقى من الناجين , بعد أن صعد زيد  على القارب المطاطي, وبدلاً من أن يشكر الله ويحمده , بدأ  بالبكاء والتقيؤ,

ابنتي...!

وبوصوله إلى سطح البارجة, تم توزيع الماء والطعام والستر عليهم  . وحين هدأت الأمور وعاد الدفء والأمان يسري في العروق ,  بدأ زيد جولة على البارجة,  باحثا  عمن بقي من أصدقائه على القارب , وإذ به يسمع صراخ طفلة تنادي باسمه !, كم كان زيد سعيداً برؤية صديقته " لمى " من جديد! , سألها عن والداها , وعلم أنها لم تجدهما ,وتمسكت به كمن يتمسك بالأمل , بحث  زيد جاهداً عن والدا الطفلة , وسأل عنهما فلم يجدهما على متن البارجة , وحين وصلوا إلى شواطئ صقلية  لم يجدهما  في مركز التجمع  , وحين وصل الدور إلى أخذ بياناته وتبصيمه  , سألوه أهذه هي إبنتك ؟ 

نظر إليها ملياً وقال: نعم هي ابنتي! ...

كان زيد يلاعبها على السفينة ليمضي الوقت بسعادة, فأصبح مستقبلها , وأصبحت لعبته الوحيدة والدائمة  .

خرج  زيد من بلده عازبا قبل أيام ليصل إلى إيطاليا,  فيصبح لديه ابنة بعمر 5 سنوات !

في أخبار اليوم التالي  يقرأ زيد السلطات الإيطالية تعلن إنقاذ 800 مهاجر غير شرعي في البحر المتوسط خلال يوم واحد أغلبهم سوريون .

 حمل زيد ابنته  وغادر الى كاتانيا – ميلانو – فانتيميليا – مونتي كالرو – نيس  - امستردام – كولن – ميونيخ – هامبورغ – فلينسبرغ – كوبنهاغن وصولا الى ملمة في السويد  .

استقر زيد.  وابنته الجديدة " لمى " بعد رحلته  المميتة في احدى تلك المجتمعات الأوربية الغريبة , بأحلامه البريئة القادمة من رحم المعاناة, ...تلك المجتمعات التي تمتلك الإيمان في العقول , والقيم والأخلاق , لا تصلها سكاكين الذبح ولا براميل الطائرات  العشوائية التي تحصد أرواح الأطفال الأبرياء .بعيدا عن الهدم والتدمير ,وثقافة الخوف التي تساهم في حيونة البشر  .

الطفاة  اتوا نتيجة لبناء مجتمع بلا أخلاق ولاقيم  , نتيجة تزاوج الدين والمال والسلطة ,  سورية ستتجاوز العاصفة كما تجاوزت العواصف  على مدى التاريخ , وسترمم جراحها.