حيث وُلِدَ من إيقاعات الغناء وطقوس الاحتفال. وكانت كلمة الغناء مرادفةً لإنشاد الشعر وإلقائه. ويُرْوَى عن الشنفرى أنه ردّ على آسريه حين قالوا له: غنِّنا بقوله الذي ذهب مثلاً: إنما الغناء على المسَرَّة.
ومع سيادة الأغاني الشعبية في القرنين (18-19)، والتي تتناول جوانب اجتماعية وسياسية، وتبين نظرة الناس إلى الحياة والجمال سادت أيضاً القدود والموحشات التي أكدت التصاق الشعر بالغناء وقلما نجد شاعراً في هذه الفترة لا يكتب الموشح أو القد أو المخمسات والمشطرات. وكان يضع في اعتباره أنه يكتب للغناء حتى إن بعضهم ينظم القدَّ أو الموشح على مقياس أغنية شعبية متداولة ليضمن لشعره فرصة أكبر للغناء.
أديب متعدد المواهب:
لم يتح لشاعر أن يُوهبَ تعددَ الجوانب الإبداعية مثلما أتيح للشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي، فقد كان شاعراً ومؤلفاً مفكراً وملحناً، ومطرباً حسن الصوت، وخطيباً ألمعياً. ومقرئاً مجوِّداً.
يقول عنه الأب فردينان توتل اليسوعي: "إن الشيخ أبا الوفاء كان عالماً وشاعراً عربياً مجيداً، وفضلاً عن ذلك كان مغنياً مطرباً ومنشداً آخذاً بألباب سامعيه، له صوت رخيم جهوري يُسمع عن بعد، يثير العواطف ويستذرف العبرات. ولماكان يخطب أو ينشد أو يقرأ في الجامع الكبير في حلب كانت الناس تقف صامتة في الأزقة المجاورة فتسمعه كأنها مسحورة".
ويُروى أنه لماذهب إلى استانبول التمس الإذن بخطبة الجمعة أمام السلطان العثماني في جامع أيا صوفيا، ولما اندفع في خطبة الدعاء أدهش الناس وأخذ بمجامع قلوبهم. ودعاه السلطان بعد الخطبة ليخلع عليه خلعة ملوكية وهي كرك المشايخ وعصا المشيخة وظل هذا الأثر معروضاً للناس في بيت الرفاعي في حي البياضة بحلب ثم اندثر.
أسرته وحياته:
أسرة الرفاعي تنتسب إلى أحمد بن علي بن أبي العباس مؤسس الطريقة الرفاعية والمتوفى (578هـ- 1183م)، في مقاطعة واسط بالعراق. وسمي بالرفاعي نسبة إلى قبيلة رفاعة التي هاجرت إلى إشبيلية سنة (317هـ-929م)، ثم عاد منها أحمد إلى البصرة وأسس الطريقة الرفاعية.
من الرفاعيين الحلبيين شاهين وتوفي سنة 1695م، وابنه عمر جد أبي الوفا، وقد أجاد فن الغناء والتلحين، ثم ابنه محمد الذي تزوج من آسيا زنابيلي فولدت له الشاعر محمد أبوالوفا.
درس الشاعر في المدرسة العثمانية، العلوم الدينية، التوحيد والفقه والتفسير. والعلوم العربية: النحو والصرف، والمعاني، وكان من أساتذته محمد وفا إسماعيل المواهبي والشيخ قاسم بن علي المغربي، والشيخ محمد الكزبري الدمشقي بالإضافةإلى والده الشيخ محمد الرفاعي.
كما درس علوم الأنغام والأوزان في الزاوية الرفاعية بحي الأكراد حيث كان يسكن وللرفاعية بحلب زاوية أخرى في حي البياضة، وأربع تكايا في أحياء أخرى. وكان في حلب مع أبي الوفا الرفاعي، الفنان الألمعي الشهير بالبَشَنْك واسمه مصطفى الحريري وكان يغني لأبي الوفا قدوده وقصائده وموشحاته.
شهد أبو الوفا الرفاعي أحداثاً سياسية كبرى منها مذبحة جامع الأطروش حين تغلب الإنكشارية على السادة الأشراف بحلب عام 1797م، وهاجموهم في البلدة فالتجؤوا إلى جامع الأطروش، وقاموا بذبحهم بعد أن أمنوهم على أرواحهم. وقد هاجمت فئة من الانكشارية منزل الشيخ أبي الوفاء وقامت بذبح ابنه أمام عينيه. وقد وضع أبو الوفا قصيدة في هذه الحادثة ذهب فيها مذهب أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس وفيها يقول:
كانت قصيدة الرفاعي من أقوى الأصوات التي كانت تتصاعد من أطراف المملكة العثمانية شاكيةً ظلم أغوات الانكشارية وجرائمهم. وقد وصلت إلى السلطان وكانت واحداً من أسباب القضاء على الإنكشارية... يقول الرفاعي:
وفي عام 1813م، أقام حاكم حلب محمد جلال الدين ابن جوجان من قبل السلطان محمود الثاني وليمة لرؤوس الانكشارية بحلب في داره بجوار تكية الشيخ أبي بكر الوفائي، فكانت وليمة الموت لهم، كتلك الوليمة التي أقامها بمصر محمد علي للمماليك عام 1810م.
وشهد الشاعر الزلزال المدمر الذي تعرضت له حلب عام 1821م، وراح ضحيته ألوف القتلى، وتصدعت زاوية الترابي وهي زاوية الشيخ أبي الوفا. وفي عام 1826، زار المكان والي حلب علي رضا باشا وعهد إلى الشيخ بأمر تعميرها. ثم انتقل الوالي إلى بغداد، وحدثت الحرب بين العثمانيين ومحمد علي باشا وأصبح إبراهيم باشا ابنه حاكماً على حلب من قبل والده، وكانت حلب قاعدة لعملياته العسكرية، وقد صحبه في إقامته بحلب شاعره الشيخ أمين الجندي أما أبو الوفا الرفاعي فقد آثر في هذه الأحداث الدامية تلبية دعوة صديقه والي بغداد علي رضا باشا فشد الرحال إلى دار السلام قائلاً:
عاد أبو الوفا من بغداد إلى حلب، وهو في الرابعة والسبعين من عمره، وعليه شارات الطرق الصوفية، وله زعامة الشعر في حلب، وريادة الموشحات والقصائد والقدود. يقول الأب فردينان نوتل عن الطرق الصوفية التي انتمى إليها الشاعر وهذه الطرق هي: الرفاعية والخلوتية والشاذلية والقادرية والنقشبندية: "كما أن الرجل الواحد يمكنه أن ينتمي إلى مجتمعات مختلفة ويدخل في حكم نظاماتها إن لم تكن متناقضة، فكذلك دخل محمد أبو الوفاء الرفاعي في الطرق المذكورة وكلها في أساسها تبتغي التصوف أو الانقطاع إلى عبادة الله انقطاعاً ممتازاً عن عبادة العامة".
وفي عام 1255 هـ أنجز الشاعر منظومته المؤلفة 756، بيتاً في أولياء حلب، وكان الشعراء في تلك الفترة إذا ألمت بهم نازلة من مرض وغيره تقربوا إلى الله بقصيدة ينظمونها تضرعاً، وعندما أصيب شاعرنا بالحمى الباردة (الفالج)، وأحس بدنو الأجل بدأ بتأليف منظومته المطوّلة وهي بعنوان أولياء حلب، طالباً شفاعتهم لينال الشفاء ويقول في مطلعها:
وفي عام(1263هـ، 1846م)، حدث وباء عظيم، في حلب وكثرت الوفيات ولزم الناس بيوتهم خوفاً من الموت خارجها، وفي ربيع الأول من عام (1264هـ-1847)، استعد الشيخ الشاعر، ابن الخامسة والثمانين للقاء ربه، وحانت لحظة الوداع، وفي تربة الصالحين شرقي مقام إبراهيم الخليل (ع)، أَوْسَعَ حفار القبور الدارَ الآخرة لجثمان الشيخ وَسْطَ جموع المودعين بالدموع وعلى شاهدة القبر نقش هذان البيتان:
ترك الرفاعي عدداً كبيراًمن المؤلفات أهمها ديوانه الشعري الكبير وهو مخطوط لا ندري أين يوجد. ومنظومة في 756 بيتاً أشرنا إليها نظم فيها من دفن في كل تربة من علماء الشهباء وأوليائها، وموالد نثرية وشعرية عديدة، ورسائل منها، رسالة فقهية في أركان الدين، ورسالة في بحوث سجود القلب، ورسالة في بيان الجوامع والمساجد والتكايا المدارس في حلب، ورسالة في الأولياء والصحابة، وتراجمهم، ورسائل وبحوث أخرى فضلاً عن المنظومة التي أوردنا أبياتاً منها.
شعره وموشحاته:
كان شعر الرفاعي صدىً لمواجد النفس في تطلعاتها نحو عالم الكمال الإلهي من جهة، وصدىً للأحداث الاجتماعية والسياسية التي شهدها العصر في أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد رأيناه يصف المذبحة الهمجية التي ارتكبها الانكشاريون في حق أشراف حلب. كما أننا نجد بين أوراقه رسالة موضوعها حث المسلمين على الجهاد ضد الفرنسيين وقائدهم نابليون بونابرت. يقول الأب فردينان توتل: "بين الأوراق القديمة التي أطلعني عليها في داره السيد عبد اللطيف الرفاعي، خطاب مؤرخ في سنة 1215هـ، 1800م، موضوعه حث المسلمين على الجهاد في سبيل خلع نير بونابرت عن مصر، ولا أدري هل الخطاب من قلم أبي الوفاء الرفاعي لكن حفظه في بيته دليل على اهتمام الرفاعي بمصالح السلطان ومناصرته. هذا ومن المعروف أن الأشراف الحلبيين اشتركوا في الحملة على مصر آنذاك، وأن حلبياً كان قاتِل كليبر القائد الشهير الذي أقامه بونابرت حاكماً على القطر المصري. وأن الحلبيين عادوا مظفرين من حملتهم".
أكثر شعر أبي الوفاء في الغزل والتصوف، وله شعر في مدح صديقه وتلميذه الوزير علي رضا باشا. وهو يبدأ شعره بالغزل والخمرة الروحيين، وهذا مايميز شعراء الشام أمثال الرفاعي، وأمين الجندي، وبطرس كرامه، عن شعراء مصر مثل محمود سامي باشا البارودي الذي كان يبدأ قصائده بالوقوف على الأطلال، هؤلاء الذين كان شعرهم
جسراً بين القديم التقليدي وبين شعر مطالع عصر النهضة. وهو لدى شاعر مطبوع كأبي الوفاء أكثر حداثة وتمهيداً لنهضة الشعر على يد شعراء الكلاسيكية الجديدة، يقول الرفاعي في مطلع مديحه لعلي رضا باشا:
يتميز شعر أبي الوفا بالرقة والطبع والسهولة والجمال قال عنه قسطاكي حمصي: "أَسْبَقُ شعراء عصرهِ، ونَظّام القلائد والنفائس، رب القريحة الفياضه، وفارس البديهة المرتاضة كأنما شعره كله من السهل الممتنع، بل الغاية من حسن المطلع والمقطع".
ومن أجمل نموذجات شعره هذه القصيدة التي كتبها بطلب من أحد شعراء عصر المعروف بالعطائي طالباً منه تضمين الآية: "أليس لي ملك مصرا"، فقال الرفاعي:
يقسم الأب توتل شعر الرفاعي إلى ثلاثة أقسام: الشعر الغزلي، والوصفي، والتعليمي. ويقول عن الغزلي: "أما الغزلي فَوَدِدْنا لو أهملنا ذكره"، ذلك أنه يراه شعراً فاسداً لأنه يستعمل لغة العشاق الماجنة. يقول: ماكان أليق بصاحب المنظومة عن أولياء حلب أن يخص شعره بمواضيع الحب الصالح التي ترتاح لها القلوب ولا تبلبل الضمائر".
والأب توتل ينعى على الشيخ راغب الطباخ مؤرخ حلب اهتمامه بهذاالشعر الغزلي، ونورد ماقاله الأب توتل لنبين تباين الرأيين في قصائد الغزل الصوفية - الدنيوية في تلك الفترة.
يقول: "والغريب أن راغب الطباخ فتح مجالاً واسعاً لهذا النوع الفاسد من الشعر في ترجمة الشيخ أبي الوفاء وفي ترجمة غيره من الأعلام النبلاء، ولم أتمالك في مجالسة الشيخ راغب عن معاتبتي إياه معاتبة الأدب والصداقة فيما كتب فقال: لا محظور على الصوفيين إذا استعاروا لهجة العشاق المجونية بالمعنى المجازي في مخاطبتهم الحبيب الإلهي شأن ابن الفارض، وعلى ذلك الأسلوب جرى أبو الوفاء في شعره الغرامي".
لم تكن استانبول عاصمة بني عثمان رغم مافيها من آثار إسلامية رائعة ومساجد فخمة قدألفت سماع الغناء الديني والأناشيد المتقنة، وقد روى بهاء الدين الرفاعي الذي رافق أباه أبا الوفا في رحلة إلى استانبول أخباراً ومشاهدات تؤكد ذلك. ولهذا فإن شاعرنا عندما دخلها بخطبته الشهيرة أمام السلطان، وبموشحاته وأناشيده الدينية وألحانه وصوته الرخيم، أخذ بمجامع القلوب وحظي باستقبال رائع من قبل رجال السلطة والأعيان، وأخذ عنه أهل هذا الفن، وهذا يعني أن حلب هي التي حملت هذه الألوان الغنائية إلى استانبول ثم أصبح لها رجالها القديرون فيما بعد في العاصمة العثمانية.
إذا كان الأب توتل قد قسم شعر الرفاعي إلى ثلاثة أقسام فثمة قسم رابع هو شعر الموشحات والقدود. وقد بلغ فيه غاية الروعة والإتقان لأنه كشاعر وملحن ومغنٍ يعرف كيف يختار ألفاظه الملائمة للغناء، وكيف يلائم ويحكم مابين الإيقاع الشعري والإيقاع الغنائي. وكانت موشحته الشهيرة يا مجيباً دعاء ذي النون، المؤلفة من سبعة عشر دوراً حيث كان يؤديها في الأذكار هو أو البَشَنْك يجتمع الناس على الأسطحة ليسمعوها ذاهلين بالصوت والأداء خاشعين باكين:
وقد دوّن الأب توتل في كتابه وثائق تاريخية عن حلب لحن أبي الوفا الرفاعي، ولا أدري لماذا لا يستعيد منشدونا اليوم هذا اللحن ويؤدونه من جديد.
ولأبي الوفا موشحات كثيرة، مايزال يغنى منها إلى اليوم من غير أن نعلم أنها له، وتُدْرَجُ تحت اسم: الشعر قديم واللحن قديم. ولو عثرنا على ديوانه وأظنه محفوظاً لدى أحفاده لأفدنا كثيراً في مرجعية كثير من الموشحات، ولعثرنا على وثيقة شعرية لذلك العهد.
وأخيراً: من موشحاته الشهيرة:
BLOG COMMENTS POWERED BY DISQUS