لكنه في الظاهر يتصوف، والفرق بين الصوفي والمتصوف كالفرق بين العالم والمتعلم، والنائم والمتناوم، والصبي والمتصابي .
قال القرطبي صاحب التفسير :
" دخل أبو محمد الكرخي ابن أخي معروف على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له : صوفت قلبك أو جسمك ؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي .
وقال رجل للشبلي : قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول :
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائه
... ولما كان الحكم على البواطن أمراً ممتنعاً أو ممنوعاً استطعنا في العبارة أن نصف الممارسة فقط، وأطلقنا عليها اسم المتصوفة لا الصوفية احترازا و احتياطاً .
وقد سميت الطرق طرقاً لأنها في الأصل وسائل لا غايات، أما الغايات فكانت
تصفية البواطن
و تزكية النفوس
ومعرفة الله،
و لا بد في الأصول أن تتناسب الوسائل مع المقاصد، لكن ّ كثيراً من الناس جعلوا الوسائل غايات، لاسيما أنها تحقق لبعضهم مدحة الخلق، أو مدحة بُسطائهم، وتفتح لبعضهم أيضاً باب الشهرة بين الناس، ومن جعل مثل هذا مقصوده فبينه وبين التصوف بُعدُ المشرق عن المغرب .
أصول الطرق الحلبية :
ينقل الغزّي و الطباخ وغيرهما أنّ في أهل حلب كثيراً ممن ينتسبون إلى الطرق العلية، فمنهم المنتسبون إلى القادرية والرفاعية و الدسوقية و النقشبندية و البدوية و الخلوتية، ويذكر الغُزّي أنّ الطريقة الشاذلية قد أُضيفت إلى حلب من عهد قريب .
و دلّ استقراؤنا على انتساب جمع كبير من العامة في حلب لعدد من الطرق في وقت واحد، فينتسب الواحد منهم لأكثر من طريقة، فيجمع بين الرفاعية والدسوقية و البدوية و القادرية في وقت واحد محققاً ما يعرف عندهم بالانتساب إلى الأقطاب الأربعة .
و تتميز الزاوية الهلالية اليوم في حلب أنها تجمع طريقتي القادرية و الخلوتية. وينفرد أتباع الطريقة النقشبندية غالباً بأنهم لا يجمعون معها غيرها . وأكثر الشاذلية هم كذلك، لكنّ بعضهم جمع بين الشاذلية والقادرية .
ممارسات الطرق في حلب :
الممارسات التي يمكن للباحث دراستها و متابعتها كثيرة، لكنني سأختار بعضها نموذجاً، ومثالاً فمن ذلك، أذكار الطرق في حلب، وكيفياتها، ومن ذلك ما يستعمله مُتّبع الطريقة من الأدوات ومنه ما يستعمله أهل الزوايا في مجامعهم من الآلآت، ومنه المظاهر الخارجة من الزوايا إلى أزقة حلب وطرقاتها، ومنه ما يكون من مراسم التشييخ أو التخليف في الطريقة .
أذكار الطرق في حلب و كيفياتها :
تختلف صيغ الأذكار الانفرادية التي يعتبرها أتباع الطرق عهوداً لازمة عليهم و خاصة بهم، عن صيغ الأذكار الجماعية في المجالس و المجامع، فيغلب في الأوراد الانفرادية في طرق حلب الاستغفار و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم و الهيللة (أي كلمة الشهادة لا إله إلا الله )، وذلك بأعداد معينة يتخذها الأتباع وردا يومياً لازما بسبب ما تعاهدوا عليه، ويضيف بعضهم الحسبلة و اللطيفية وغيرها.
و يردد النقشبندية في أورادهم الفردية لفظ الجلالة ترديداً سريعاً خفيّاً، و يردد الشاذلية في أورادهم الفردية أيضاً لفظ الجلالة لكن بالمدّ الطويل وبالجهر لا بالخفاء .
ويتخذ النقشبندي هيئة خاصة في الذكر الفردي، فيحضر في خياله صورة شيخه وهو ما يعرف بالرابطة عندهم ، وجعلها بعضهم استحضار صور الموت ونزول القبر، ثم يأخذ السبحة و يضعها تحت ثديه الأيسر ويضع لسانه في سقف حلقه و يقول في قلبه : الله الله، وفي نهاية كل سبحة يقول بلسانه : إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي .
ويتخذ الشاذلي المبتدئ هيئة خاصة في ذكره الانفرادي أيضاً، فيكرر بالمدّ لفظ الجلالة واضعاً رسمه أمام عينيه ليعينه على تركيز المعنى في قلبه، وليشغله عن الخواطر المتواردة عليه .
أما أذكارهم الجماعية فهي كالآتي :
النقشبندية :
يعقدون حلقة يسمونها (الختم) و فيها يجلس الذاكرون متحلقين و يقرؤون بإشارة من مدير ذلك الختم بعض الآيات القرآنية المخصوصة، وبعض الأذكار، ويذكرون سند شيوخ طريقتهم إلى أبي بكر الصديق إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
الشاذلية :
لا تكون أذكارهم الجماعية في الغالب قعودا، بل تكون قياماً، فيتحلقون، ويرتبط بعضهم ببعض في الحلقة بتشبيك الأيدي محافظين بذلك على تماسك الحلقة، ويرددون جهراً لفظ الجلالة مع حركة تشبه الركوع و القيام في الصلاة أو أقل من ذلك، وحركة أخرى ترتفع فيها أعقاب أقدامهم عن الأرض، وتبقى أصابع الأقدام مكانها على الأرض، فيحافظون بذلك أيضاً على انتظام الحلقة و انضباطها. إلا أن بعض الذاكرين ينتقلون من الذكر الملفوظ إلى حال قد يكون حال وجد فلا يسمع معه لفظ الذكر، فتبدأ حلقة ذكر وتنتهي حلقة وجد .
الرفاعية و القادرية و أتباع الأقطاب :
وتكون أذكارهم الجماعية قياماً أيضاً، لكنهم لا يشبّكون الأيدي بعضها ببعض، وتزيد حركاتهم عن الحركتين الموصوفتين آنفا بحركة ثالثة التفاتية إلى اليمين مرة وإلى اليسار أخرى، ويرددون في حلقة الذكر جهراً : ( لا إله إلا الله )، و ( اللهم )، و ( الله دايم )، و ( الله حي )، وما يشبهها من الصيغ .
أذكار الهلالية و بعض الزوايا القادرية المشابهة :
تكون في المحيط حلقة قياماً، ويجلس في وسطها من يرغب في الذكر قعوداً، ويجلس المنشدون أيضاً و قد يقوم أحدهم .
ويقترن الإنشاد بالذكر الجماعي في أكثر الطرق، ويكون ضابطاً له، سواء وجدت الآلات الإيقاعية أم لم توجد .
تعقيب :
يقول الشيخ الرفاعيّ فيما نقل عنه في برهانه المؤيد :
" بين الملعون و المحبوب بَونٌ عظيم، إذا دخلتم مجالس الذكر فراقبوا المذكور، واسمعوا بأذن واعية... لا أقول لكم : إني أكره السماع لتحققي في مقام سماع القول و أتباع أحسنه، ولكن أقول لكم إني أكره السماع للفقراء القاصرين عن هذه المرتبة، لما فيه من البليات الموقعة في أشد الخطيئات، وإذا كان ولابد فمن حاد أمين مخلص، يذكر الحبيب عليه السلام، و يذكر بالله ويذكر الصالحين، وهناك وقفوا "
2ــ 2 ــ الأدوات المستعملة للذكر :
وهي في الغالب السبحة أو الحصى .
السبحة :
وهي لضبط أعداد الأوراد، وتكون غالباً كريات خشبية، عدد أصغرها مائة حبة، وعدد بعضها خمسمائة حبة، وبعضها يكون ألف حبة، وفي النادر يكون العدد أكثر من ذلك .
الحصى :
و يستخدمها النقشبندية في حلقة ( الختم ) المتقدم ذكرها . و يستخدمها غيرهم فيما يعرف بمجلس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يصلي كلّ من في المجلس على النبي صلى الله عليه وسلم، و يجمع عدد الصلوات من الحاضرين ليبلغ اثنين و تسعين ألفاً .
2 ــ 3 ــ ما يستعمله أهل الزوايا في مجامعهم من الآلات :
و تنقسم إلى قسمين :
آلات موسيقية .
آلات طقوسية .
2ــ 3ــ أ ما يستعمله بعض أهل الزوايا في مجامعهم من الآلات الموسيقية :
يستعمل أكثر متصوفة حلب الآلات الإيقاعية من غير إضافة آلات موسيقية صوتية، بينما يستعمل كثير من متصوفة مصر الآلات الصوتية ومنها الوترية، ويستعمل كثير من متصوفة تركيا الناي، ويغلب على النقشبندية و الشاذلية عدم استعمال الآلات مطلقاً، فلا يستعملون الإيقاعية، و لا الموسيقية الصوتية، و كانت قديما تستخدم في الزاوية الهلالية بعض الآلات الإيقاعية،ثم تركت بعد وفاة ضابط الإيقاع المتميز جداً وقتها و عدم وجود البديل المماثل، أما في الزوايا الرفاعية و زوايا أتباع الأقطاب، فتستعمل أكثر الآلات الإيقاعية ومنها:الطبلة الصغيرة، والطبل الكبير، و المزهر، و الخليلية .
2 ـــ 3 ـــ ب ـــ ما يستعمله بعض أهل الزوايا في مجامعهم من الآلات الطقوسية :
وأعني به استعمال بعض الأسلحة كممارسات ترسخ ظاهرة خارق العادة. وينفرد بها الرفاعية القادرية وأتباع الأقطاب، وهي :
السيف
الشيش : وله ثلاثة أنواع :
للبطن
للجلد
للخدين
الرحمانية : و هي قطعة نحاسية هلالية اتصلت بعصى خشبية، و تستعمل عند شدة الإنكار، فيدخل مستعملها الجزء المعدني في بطنه و يخرجها من الطرف الآخر بكل أجزائها المعدنية و الخشبية .
المحجان : و هو عصى معكوفة الرأس تستعمل للحد من هيجان حامل الراية أو العلم في النوبة .
تعقيب :
يقول الإمام الرفاعيّ رحمه الله عليه :" لا تجعل غاية همتك و منتهى قصدك أن تمر على الماء، أو تطير في الهواء، يصنع الطير والحوت ما أردت، طرْ بجناح همتك إلى ما لا غاية له، العارف المتمكن لا شيء عنده من العرش إلى الثرى أعظم من سروره بربه "
ويقول أيضاً : " الكرامة عزيزة بالنسبة للمكرم، ليست بشيء بالنسبة لنا "4
2 ــ 4 ــ المظاهر الخارجة من الزوايا إلى أزقة حلب وطرقاتها ( أو ما يعرف بالنوبة ) :
وقد كانت لأمد قريب موجودة، لكنها مؤخراً بدأت تختفي شيئاً فشيئاً. وهو موكب ترفع فيه الأعلام الخاصة، ويخرج بنظام خاصّ، و يسير في الطرقات بين الناس .ويتقدم الموكب عادة ثلاثة أعلام :
العلم الأصغر ) و هو في الوسط و المقدمة أمام الموكب و يشير إلى راية الشيخ الرفاعي،ويسمونه (الإشارة)
العلم الأكبر ) و يكون في أيمن الموكب و يشير إلى راية الشيخ الجيلاني.
العلم الأوسط ) و يكون في أيسر الموكب و يشير إلى راية الشيخ البدوي .ويسير الموكب و معه آلات الإيقاع و المنشد و الأسلحة.
تعقيب :
" أخذتم هذه المواكب عدّة لقمع شوكة الكافرين و الصابئين و أصحاب الزيغ و الذين في قلوبهم مرض في هذه البقاع، لإرهابهم و لإعلاء كلمة الدين، و تشييد شرف المسلمين، أحسنتم العمل إن حسنت معه النية " إلى قوله :" إذا ساءت المذاهب، لا فرق بينكم و بين أولئك القوم، إلا بالعلامة و العمامة "
2ــ 5 ــ مراسم التشييخ أو التخليف :
لا توجد مراسم معينة للتخليف عند الشاذلية، بل تكون فقط بإجازة خطية أو شفهية .ويغلب الأمر كذلك في النقشبندية، لكن تستعمل أحياناً عند النقشبندية عمامة الشيخ القديم فتوضع بعد وفاته على رأس الشيخ الجديد، لاسيما حين يحصل التوريث لأولاد الشيخ، وهو مخالف لما كان عليه الصوفية في الماضي. وأما عند القادرية و الرفاعية فهناك مراسم خاصة.
إذ يجلس المستخلف على السجادة لابساً الخرقة، و يقرأ سورة يس ( 41 مرة )، و يحضرون حبلا معقودا فيه إحدى و أربعون عقدة، و لفكّ العقد عن المستخلف يقرأ الحاضرون بعض الآيات، ليفكّ بها عقده، وقد يقرأ الواحد منهم أكثر من قراءة لفكّ أكثر من عقدة، و ذلك بحسب عدد الحاضرين .
و بعد فكّ العقد و قراءة المستخلف لسور يس يعلن الشيخ تخليف هذا المستخلف على ملأ من إخوانه و يضع له العمامة على رأسه، و يلبسه الخرقة ( الثوب ) ثم يكتب له الإجازة .
و الاستخلاف في هذه الطرق يعطى لعدد كبير، ففي حلب مثلا ما يزيد عن عشرين ألف خليفة الآن من الطرق الرفاعية .
و يتم في استخلاف الرفاعية ترقية المريد في مجلس واحد من مريد إلى شاويش (أي خادم الخلفاء و الفقراء) إلى نقيب، وهو يشبه نائب الخليفة، إلى خليفة. ويتوقف لبعضهم عند إحدى هذه الرتب.
تعقيب :
يقول الإمام الرفاعي :"تظن أن هذه الطريقة تورث من أبيك، تسلل من جدك، تأتيك باسم بكر و عمرو، تُصيّر لك في وثيقة نسبك، تُنقش لك على جيب خرقتك، على طرف تاجك، حسبت هذه البضاعة ثوب شعر، و تاجاً و عكازاً و دلقاً، وعمامة كبيرة وزيّاً صالحاً، لا والله، إن الله لا ينظر إلى كل هذا .... ما عملت بأعمال الطائفة وتلبس لباسهم يا مسكين "
ثالثاً : الخلاصة و النتيجة :
مما تقدم يظهر وجود ممارسات متصوفة كثيرة في حلب، و قد أتينا على ذكر بعضها، فمنها ما يستند إلى أصول الأقدمين، ومنها ما أنكره الأقدمون و عابوا فعله، وطلبوا بدلا عنه تصحيح المقاصد و تعديل المسار .
و قد استقيت البحث من المصادر البشرية و الاستقراء في زوايا حلب و أتباع تلك الطرق، فإن أصبت شيئاً من الصواب فبتوفيقه تعالى، وإن أخطأت فيه فمن نفسي ومن الشيطان، و أستغفره تعالى و أتوب إليه
BLOG COMMENTS POWERED BY DISQUS