دائما كنت تقولين لي أنا إبنة حلب ولدت هنا وسأموت هنا ,لم اكن أفهم أو أستوعب أو أتخيل أنك تقصدين هذا الموت الذي زارك .
أكتب لك بجرح في الأعماق ,
وبقلم مداده الألم , أعلم أن كلماتي الحزينة وحروفي الباكية هذه لن تصلك ولن تقرأيها
لم أكن أتخيل يوما ما أن اكتب بك رثاء .
أي حزن هذا الذي أنطقني !
أي حزن هذا الذي أبكاني رغم انني أقف على محطة إنتظاره
حتى الليالي باتت حزينة على فراقك
"هذه الدار لاتبقي على أحد ولايدوم على حالها انسان"
الحياة زائفة زائلة كلها ضياع في أروقة الروح
رهف :
يا اخت خير اب واحن ام .
ماكنت أظنك راحلة قبل رحيلي !
ماكنت اظنك راحلة دون وداع !
أين انت مني الان ؟
في يوم غروبك عن حياتي أكتب لك , والدموع تحجب عني رؤية ما أخطه على الورق
ابتعدتي و أبحرتي وحيدة الى عالم اخر لاوجود لنا فيه .
وتركتني غريب في بلاد غريبة , يتيم في الحياة , يتيم الأب والأم والأخت .
رحلتي مبكراً لتنضمي الى أحبتي أمي وأبي وفراس , وتركتني مع ذكراكم .
وما بين رحيلهم ورحيلك فجوة عميقة في النفس ,وثقب أسود يبتلع كل ماحوله .
رحلتي وأخذتي معك ما تبقى لي من الراحة , وهدوء البال , والطمأنينة والسكينة .
آآآآ آخ يا أختاه ,
أوجاعك كانت أوجاعي, وآلامك كانت آلامي , وأحزانك كانت أحزاني.
أخذت معك لهفتك وأنت تكلميني , وجزعك حين لا أرد على اتصالاتك ,
وصوتك المتهدج حباً وخوفاً وقلقاً حين أتصل معك مطمئنا .
وكما كنت تشتاقين لسماع صوتي دائما من على البعد , كنت اشتاق إلى سماع صوتك.
وفي أيامك الأخيرة كان ذاك الصوت الضعيف المتهدج والمحمل بآلام فظيعة , ومعاناة مريعة .
كنت أعلم من صوتك أن الموت يترصدك ,
صارعتي مرضك القاتل وحيدة في مدينتك المنكوبة التي أبيت أن تغادريها.
وكنت تواجهيه بشجاعة أخافته وجعلته يتردد عدة مرات قبل أن ينال من شكيمتك .
آخر مرة حدثتك كان صوتك يقطر ألما
وكلماتك تقطر حزنا
رغم مكابرتك ومعاندتك لكي لا تبدين كذلك .
شعرت بك وبرغبتك , فاختصرت الحديث بعد أن سبقت دموعي لساني العاجز .
لقد تمكن منك المرض وأوصلك إلى آخر محطاته .
أغلقت السماعة وبكيت لوحدي ,
بكيت غربتي ووحدتي وعجزي وألمي وقهري .
وداعك يارهف ليست كلمات تكتب , ومشاعر تخط .
وداعك ألم يسكن القلوب
غصة في الحلق بطعم القار, تختنق العبارات تخنقها الدموع .
رهف:
يامن عاشت كشمعة احترقت ببطء لتنير درب من حولها.
ياشمساَ أشعت نوراَ وأملاَ وحناناَ في كل سماء أشرقت بها .
رهف ياروح جميلة ذهبت ولم تعد .
ياروح ساكنة , ويانفس سالمة , وياحب لاينضب
يانقية كدموع طفل صغير.
رحلتي...!
بعد ان فقدتي الامل بايجاد مكان للمبادئ الانسانية في هذا الزمن الموبوء بالوحوش.
بعد ان مزقت الأشواك بتلات رهافتك وحسك .
بعد أن تأكدتي أن هذا الزمن ليس بزمانك, وهذه الأمكنة ليست لأمثالك.
لقد ولى إلى غير رجعة زمن الأنبياء .
ودم الأسياد الجاري في عروقك كان إرثا من الصعب حمله في زمن العبيد .
ماذا أقول ؟
وقد أفرغت الكلمات من معانيها, وأصبح التفاهم بلغة اخرى لانتقنها .
كان الغياب دائماَ قدرنا , والفراق كتب علينا .
ولكن هذه المرة سيطول الغياب فلا عودة ولا إياب .
فرقتنا سنوات حرب ومعاناة لبلدنا
فغابت صورتك عني وحل مكانها مشاعر وذكريا ت .
شمسك أفلت عن دنياي
ورحيلك أعلن وفاة يوم مشرق نهايته الظلام والليل .
هاتفك لن يرن , والفراق هذه المرة سيكون طويلا.
واللقاء في هذه الدنيا بات مستحيلا.
ليل يصر حزنه على ملاعبتي ومداعبتي ومناداتي.
بينما خطوات الألم المتعثرة لا تكاد ترى من خلف ضبابية الدموع
دموع الحزن النازفة
ليل بهيم , لا يرى فيه إلا بريق الدمع .
وحزن مقيم انتقل من صحراء الهموم إلى صحراء الأحزان .
ارتدت روحي رداء الحزن وتكلمت حروفها بلغة الدموع .
هو الموت
الموت يقتل الامل فينا ولا يبقينا .
يصعقنا ويجرحنا جرحا لا يندمل .
كما هو جرح جسدك الذي رافقك ألمه حتى مماتك.
ألم الفراق أشد عذاباَ من الألم الذي كابده جسدك في أيامه الأخيرة
موتك كان قاسياَ رغم انتظاره فقد رحلت دون وداع!
بكت شراييني ألماَ وعذاباَ.ولا تزال.
والقلب صرخ أوجاعاً غير مسموعة
والعقل تاه في متاهات الحزن.
والنفس اتشحت بالسواد
لم أشارك في لحدك .
ولم أحمل نعشك .
ولكن حملتك في صدري كجرح لم يندمل.
وبكيتك في قلبي ألماَ مزمناَ
شاطئ الأمان اختفى , والأمل في العودة للوطن تلاشى, فلمن أعود ؟
الضعف والهزيمة نالا من عزم السفينة
وتغلغل الماء المالح إلى جراحها المتكسرة على صخور المعاناة
القدر يسرق أغلى أيامي , وأعز أحبابي , ويترك لي بقايا ضحكات وذكريات .
رهف أيتها الحنونة الرقيقة
أيتها الوفية الابية
أيتها الطاهرة السمحة
أيتها الحبيبة الصديقة
أيتها البسيطة الصريحة
أبتها العطوفة المحبوبة
يا قريبة السماء . ويا رفيقة الأحزان والأشجان
ياسيدة التواضع والكرم
لماذا تركتني وريث الحزن والقهر والفراق
ألا تعلمين أنه أمام الموت لا يوجد رجولة
رهف الخير والمحبة
ودعتنا مبكراً , وتركت خلفك قلباً باكياً ذابلاً , وعقلاً هائما ًذاهلاً .
غادرت قبل الميعاد
ذهبت كما تمنيت دائماً إلى والدتك ووالدك وإبن عمك وإبن خالتك .
لماذا رحلتي ولم تنتظري عودتي ؟
كنت دائما تقولين لي من له أخت لا ينضام !
لماذا أسرعت الرحيلا ؟
لماذا قضى عمرك هلالاً لم يكتمل بدره بعد ؟
رحلتي وتركتي خلفك طعم المرارة
وحزن حطم الفؤاد وكسر المشاعر كسوراً لاجابر لها
وداعك ألم يسكن في القلوب ويستوطن الأعماق
لم يتبقى لنا سوى أن نجتر الذاكرة المشحونة بالذكريات ونلوكها
يوما ما سيعود الوطن الى أهله
وسأعود الى منزلنا لأعانق الحزن وأدفن الوجع .
الى حينها نامي ايتها الحبيبية قريرة العين وسامحيني .
اسال رب العرش العظيم مغفرة لك تمحو الخطايا وتزيل الآثام
وتفرش السندس في الفردوس منزلا وتجمعك مع الاهل والأحبة
يا سماء احفظيها , ويا أرض احميها
يا نجوم احرسيها ويا قلوب احبيها
يا كون ودعها كما يليق بها الوداع
لقد عاشت في زمن ليس زمنها
الموت ...
هذا الزائر الصامت ...
زارك الموت يا رهف منذ أربعين يوما ... وبمشيئة الله وقضائه وقدره اتفقت معه على الذهاب دون عودة.
غادرتنا إلى العالم الحقيقي الذي تنتمين له ...عالم الروح والحقيقة ...عالم البراءة والطهارة ...
بعيدا عن عالمنا الملوث بأخلاق الشياطين.
أربعين يوما مرت وتركت لنا ذكراك
وذكرى الأربعين عادة وليست عبادة،
ولكنها محطة نقف فيها على الأطلال ونعيد وصف الأمكنة والأزمنة.
ونبث من خلالها الحزن والشوق والحنين.
ونستذكر مرارة الفراق الأبدي والحسرة والغصة.
ونعيد شحن إيماننا بترديد آيات الذكر الحكيم.
والدعاء لك والصدقات وطلب الرحمة والمغفرة لروحك.
فانا لازلت أخاك... سندك في هذه الدنيا ولا زلت طفلتي المدللة.
كم كنت أتمنى لو أنك كنت قد هزمتي الموت!
صبر جميل وبالله المستعان.
ولكنك عدت إلى الأرض التي منها خلقناكم وفيها نعيدكم.
ولم يتبقى منك إلا سيرتك العطرة لدى أهلك وأصحابك ومعارفك وفي مدرستك.
فقد كنت معلمة مخلصة اعتادت العطاء واعتادت أن تنير درب الحياة أمام الأجيال.
اعتدت أن تكوني شمعة تحترق لتنير لهم دربا وطريقا. كما كنت لجميع من كانوا حولك.
رحمك الله يا رهف
تغمدك الله بواسع رحمته وأسكنك فسيح جناته انه سميع قريب مجيب.
شهران على فراق رهف
واربع سنوات على حرماننا هواء حلب وسماع مآذنها وأجراس كنائسها.
نعوم في الأحزان بل نكاد نغرق .
ولانملك في هذا الظلام الا شمعة الأمل .
نصرخ وجعا ونئن أنينا يشكو الظلام ونتسامر قهرا على مائدة المعاناة الغنية بوجباتها
تلك المائدة التي تزينها شمعة الحزن على فقد الاحية والتي لازالت متقدة .
وقبل أن ننام وجعا وقهراً ألما لاينتهي
نبكي وطنا أضاعه غرور وغباء وعمالة أبنائه
حلب أدمنت الموت !
.مدينتي تطحن كل يوم لتكمل فصول ملحمة الخراب
المدينة التي منح أهلها حرية الاختيار بين النار والسعير, بين جهنم والجحيم .
بين الموت في الأقفاص أو ببواريد الصيد .
حلب المدينة التي أُكلت أحلامها, وهُضمت حقوقها , ولم يبقى لها حتى الفضلات !
حلب التي حُولت الى غابة ,وحُول شعبها الى حيوانات تجارب.