من بوخارست إلى دمشق : عاصفة من الثلوج ولقاء الوطن

مقالات
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

من بوخارست الى دمشق، تلك الرحلة كانت أكثر من مجرد سفر، هي قصة انتصار على الخوف وعودة الكرامة والحرية. 

السماء تتجمد من شدة البرد، والثلوج تتساقط وكأنها قررت إقامة حفل زفاف في مطار بوخارست. على الشاشة في المطار لعبة التأخير والالغاء وفي كل مرة أنظر إلى اللوحات الإلكترونية، أجد رحلة تُلغى، وأخرى تؤجل.

تتنافس الرحلات من سيبقى أكبر وقت ممكن في المطار. الوقت يتسرب من بين أصابعي، مع كل ثانية تمر، تتزايد آمالي في العودة إلى الوطن.وأخيرا  خفف الجو من عناده وقسوته وسمح لنا بالطيران الى استانبول  حيث انتظار ممل في المطار لموعد جديد تقلنا طائرته الى بيروت .

استقبلتنا بيروت بطريقة غير معهودة، وكأنها تدرك مدى شوقنا للعودة إلى أراضينا المحبوبة. لم تكن هناك حواجز، بل مساحات من الحرية تتيح لنا المرور عبر حدودها إلى سوريا، ذلك الوطن الذي لطالما حلمنا بالعودة إليه في ظل ظروف أفضل.

في الطريق قفزت بي الذاكرة الى 12 سنة خلت حين كتبت مجموعتي القصصية " وداعا ياوطن"  حينها كنت متأكدا ان نظام الأسد لن يسمح لي بالعودة الا الى أفرعته الأمنية ومنها الى مقابره الجماعية .وبعد قليل سأدخل سوريا منتصرا ظافرا. 

نقطة العبور لم تتغير منذ 20 سنة، اخر مرة نزلت سوريا عبر لبنان ولكنني ولأول مرة ادخل حدود سوريا دون خوف او وجل او رعب او عصة قلب،  كما اعتدت واعتاد السوريون. لم أعد أشعر بتلك القشعريرة التي كانت تخالجني عند التفكير في مراكز الاعتقال.

بدخولي وطني عادت الى المواطنة وحقوقها والكرامة والحرية والثقة بالنفس والاحساس بالإنسانية والتخلص من عقد الخوف والرهبة.

دقائق وسلمني الموظف السوري المختص الجواز ممهورا بختم الدخول...نعم بهذه البساطة  كان واضحا من أدبه ووجهه انه من الموظفين الجدد. لم يرمه كما كنت معتادا ولم يحدق بي ولم يجعلني انتظر كي يتشفى بخوفي ورهبتي ويستغلها.

رجوته ان يخبرني عن وضعي الأمني السابق:  بدا بالبحث قال لي :

انت مطلوب للاعتقال من قبل فرع فلسطين .

تابع البحث  ومن قبل الفرع 279.

وتابع البحث ومن قبل فرع  الامن الخارجي.

وتابع البحث فقاطعه زميل اخر  له وعلى مايبدو انه تضايق من سعادتي بالخلاص،  واعتقد ومن خلال تقاسيم وجهه اللئيمة ومن طريقة كلامه انه من الموظفين القدماء المكوعين  الذين لازالوا في مراكزهم بعد تدجينهم،  وقال له:  بيكفي لدينا عمل وهناك مراجعين ينتظرون.

توقف الموظف عن البحث مبتسما وقال لي:  يمكنك مراجعة إدارة الهجرة والجوازات لمعرفة تفاصيل الافرع الأمنية التي كانت تطلبك. شكرته وغادرت.

 

كم  من التقارير التي رفعت بحقي؟ وكم من الموظفين والمخبرين تناوبوا على كتابتها بحقدهم ولؤمهم وارضاء لأسيادهم؟  وكم من ساعات العمل المهدورة على كتابة وقراءة هذه التقارير؟ ، وأخيرا هاهي لا تصلح حتى لاستخدامها كورق تواليت! .

اليوم العودة مختلفة؛ لم يكن هناك خوف أو وجل، بل شعور بالانتصار والتحرر من القيود. خلال الطريق الى دمشق ارتسمت أمامي ألوان العلم الأخضر، كأنه يدعو إلى مستقبل مليء بالأمل الألوان الخضراء كانت تضيء الطريق، وكأن الوطن أعطاني التفويض النهائي لدخول أراضيه دون خوف.

يابشار انت اليوم لاجئ هارب مسجون في منزلك وانا حر أتنفس هواء بلدي، وهذه بلدي عادت الي ولفظتك. لقد استعدت حقوقي المسلوبة وعدت لأدخل وطني ولكن هذه المرة كمواطن  مرحب به، لا كمتهم مطلوب للاعتقال .

يااعوان بشار وزبانيته، تقاريركم لم تضرني وهاأنذا عدت الى سوريا منتصرا وقد استرددت حقوقي المسلوبة . ها أنذا أعود إلى سوريا بجذور العزيمة وتمسك الأمل، لأجد نفسي أخيراً كأي مواطن سوري له حقوقه.

لقد عدت إلى هنا، أنا المواطن الحر، الذي لا يزال لديه الكثير من الحكايات ليخبرها عن زمنٍ مضى!

أنا حر، وقد استعدت بلدي، قادماً من معاناة إلى فجر جديد.

سوريا، ها أنذا أعود إليك، عائداً مع انتصارات صفحة في كتاب لم يُكتب بعد، كتاب جديد يحمل بريق الأمل وحرية الهوية.