مقابلة مع المخرج الروماني فلاد بيتري

منوعات
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

تشبه حركة التاريخ نهرًا متدفقًا مندفعًا؛ يبدو أنه يدفع الأجساد والآمال والكلمات حيثما يريد. فماذا يبقى من الأفراد وتطلّعهم إلى السعادة والتغيير؟ يتساءل المرء أثناء مشاهدة فيلم الروماني فلاد بيتري «بين الثورات»

المعروض ضمن النسخة 16 من بانوراما الفيلم الأوروبي.

الثورات والإثارة المحيطة بها، وكذلك الانبهار بها وخيبة الأمل التي تتبعها، هي من بين موضوعات الفيلم الذي ينظر إلى التقاطعات بين الثورتين الإيرانية والرومانية في عامي 1979 و1989 على التوالي، والسنوات والأشخاص من حولهما. الثورات الواردة في العنوان هي الثورة الخمينية الإيرانية عام 79 والثورة الرومانية التي أفضت إلى سقوط نظام تشاوشيسكو. في هذا الإطار الزمني، تتبادل امرأتان، ماريا وزهرة، رسائل قسّمتها الأحداث واقتصّت منها الرقابة السرية، تؤرخ نضالهما بصفتهما امرأتين تكافحان من أجل إسماع صوتيهما، فيما يتحرك بلد كل منهما في اتجاه مخالف للآخر. رغم المسافات والعوائق، يظلّ بينهما شوق قوي للّقاء

عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان برلين، وفاز بالفعل بالعديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية الكبرى، بما في ذلك جائزة «فيبريسي/ FIPRESCI» في برلين، ومؤخرًا الجائزة الكبرى في مهرجان بلد الوليد السينمائي «Seminci»، أحد أقدم المهرجانات السينمائية في أوروبا. وهو عبارة عن عمل ماهر يعتمد على مواد أرشيفية، يضيء هذه اللحظات التاريخية برؤى لافتة بطبيعتها الرمزية ومليئة بالمشاعر المختلطة. «أعتقد أن الأرشيفات حيّة؛ لو أنني صنعت هذا الفيلم قبل خمس سنوات لكان الأمر مختلفًا تمامًا. المواد تتغيّر لأننا ننظر إليها بعيون الحاضر، ولهذا السبب تعلّمنا دائمًا شيئًا جديدًا»، يشرح المخرج، الذي تغذى أيضًا في الجزء الروماني من الفيلم على عناصر سيرة ذاتية وإرث هذا الصدع التاريخي الذي شهده بشكل مباشر.

في ديسمبر 1989، كان فلاد بيتري في العاشرة من عمره. شاهدَ الصور على شاشة التلفزيون مع والديه في المنزل في بيستريتا. كان والديه يضعان أيديهما دائمًا على عينيه عندما تكون هناك «مشاهد مثيرة» في الأفلام على أشرطة الفيديو المنزلية. لكن أحدًا لم يسلمه من الصور الوحشية لـ«الجثث والرصاص» على شاشة التلفزيون. «كنت مع عائلتي، وكان هناك جنون، ولم يكن أحد يصدّق أن هذه اللحظة، الثورة، قد جاءت أخيرًا». كان ذلك أول لقاء له مع «الواقع» على الشاشات، الذي حلّ فجأة، في ديسمبر من ذلك العام، محلّ الخيال والدعاية الرسمية على شاشة التلفزيون. لكن هذا الواقع أيضًا، كما فهم فلاد بيتري لاحقًا، كان لا يزال بمثابة «مسرح». يقول: «لدى الفيلسوف والمنظر الثقافي الروماني أوفيديو تيشينديلينو كتاب جيد جدًا، بعنوان ‘الثورة الرومانية متلفزة‘، يتحدث فيه عن الثورة كمسرح لتعزيز السلطة الجديدة».

التقينا فلاد بيتري فكان الحديث التالي حول وجهات النظر والبحث وقوة الفيلم الوثائقي.

بدأت كمصوّر فوتوغرافي، ثم أخرجت أفلامًا. هل تجد صلات مشتركة بين العالمين؟

بدأت بالتقاط الصور منذ أكثر من 20 عامًا. وفي وقت لاحق، أصبح التصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام متشابكين أكثر فأكثر بالنسبة لي. ربما كنت أكثر شغفًا بالتصوير الفوتوغرافي عندما كنت في الجامعة، في UNATC، حيث درست في قسم «الصورة». هناك، التقت سورين بوتوينينو، أستاذ ورجل مميز، مخلص جدًا لعمله وقريب من طلابه، والذي أصبح فيما بعد صديقي، أثرّ فيّ للاقتراب من الواقع ومن نوع معيّن من البحث والمراقبة، سواء كنا نتحدث عن السينما أو التصوير الفوتوغرافي.

فيلمك الأول، «بوخارست، أين أنتِ؟» (2014)، استوحيته من الحركات الاحتجاجية الرومانية لعام 2012. الآن لدينا هذا الفيلم المعتمد على لقطات أرشيفية، وهو عبارة عن نظرة على رومانيا وإيران في السبعينيات وكيف يعيد التاريخ كتابة قصصنا. يبدو أنك لم تتخل عن هذا الموضوع. كيف وصلت إلى قصة هذا الفيلم وشخصياته؟

هذا الفيلم مختلف تمامًا عن «بوخارست، أين أنتِ؟». فـ«بين الثورات» مبني على الأرشيف، كما أنه يتتبع مصائر امرأتين على مدى 10-15 عامًا، بالتوازي مع الأحداث السياسية التي تشاركان فيها، ولكن أيضًا مع حياتهما اليومية العادية، كما تظهرها وتعكسها الدعاية. أحد الروابط المحتملة هو أنه في كلا الفيلمين هناك أشخاص في الشوارع يريدون تغييرًا حقيقيًا، لكن بخلاف ذلك لا أرى صلة واضحة بينهما.

أنا شغوف بالسياسة في السينما والطرق التي تنعكس بها في حياة الناس. تجسّدت الشخصيتان على عدة مراحل. كانت هناك مناقشات مع والدتي حول سنوات دراستها، وحول الطلاب الأجانب القادمين إلى رومانيا في السبعينيات، وكان هناك أيضًا اهتمامي بأوروبا الشرقية والشرق الأوسط، وكانت هناك رحلات إلى إيران، والمناقشات مع الناس هناك، وقصائد نينا كاسيان وفروغ فرخزاد.

ما العلاقة بين رومانيا وإيران؟ لماذا استخدمت هذه المرايا؟

بالنسبة لي، تعد الثورة الإيرانية عام 1979 والثورة المناهضة لتشاوشيسكو من أهم الحركات الشعبية والانتقالية في القرن الماضي. حظيت الثورة الإيرانية بتعليقات مكثفة، خاصة من منظور «أزمة الرهائن» (احتجاز موظفي السفارة الأمريكية في إيران كرهائن لمدة 444 يومًا من عام 1979 إلى عام 1981)، وهو الحدث الذي أثر على الانتخابات الأمريكية، ووضع إيران تحت أضواء وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم. كانت ثورة رومانيا عام 1989، التي بُثّت على الهواء مباشرة، حدثًا تمت مراقبته بشكل مكثف، وذلك بسبب سُمعة تشاوشيسكو، والاهتمام بسقوط الستار الحديدي والفضول الذي أثارته رومانيا. وعلى نحو ما، إذا أردنا أن نجد قاسمًا مشتركًا، فإننا نتحدث عن مجتمعين جرَّبا أنظمة سياسية تجريبية، النظام الإسلامي الشيعي والنظام الشيوعي الوطني، وكلاهما فشلا في نهاية المطاف.

 

مكننا أن نتحدث أيضًا عن نظامين أبويين، موجّهين نحو تمجيد القادة -إيران مع شخصية الخميني شبه الإلهية، حيث لا تُحترم حقوق المرأة، ورومانيا في عهد تشاوتشيسكو، حيث يبدو أنه جرى تشجيع حقوق المرأة، ولكن في الواقع كان المجتمع مخنوقًا إلى حدّ كبير، وكان الإجهاض محظورًا وكان هناك اندفاع مجنون للإنجاب. عاشت والدتي في هذا العالم ووُلدتُ فيه، وينعكس في هذا الفيلم بعض الأحداث التي مرّتْ بها.

أخيرًا، فالشيء الأساسي الذي يربط بين الثورات والمجتمعات في رومانيا وإيران هو شكل عظيم جدًا من التضامن، لأنه مع التضامن المجتمعي من السهل تحديد الشر الأعظم أو الشخص الذي يجب أن يسقط لكي نبدأ شيئًا ما آخر، لتغيير المجتمع تمامًا. في إيران، كان هذا الشخص هو الشاه، على الرغم من تقديمه في الصحافة الغربية باعتباره متحضرًا، إلا أنه كان دكتاتورًا وكان نظامه ملكيًا استبداديًا. أراد الناس على جميع مستويات المجتمع التغيير. ولهذا السبب كانت الثورة الإيرانية ظاهرة مذهلة، بدأت من القاع، حيث كان هناك عُمال، وكان هناك طلاب، ويساريون، ومثقفون، وفلاحون، ومتدينون، وجميع شرائح المجتمع تريد التغيير. والأمر نفسه في رومانيا، حيث كان تشاوشيسكو عائقًا يجب التخلص منه، ولا يهم ما حدث بعد ذلك.

من الأفكار التي طرحتها في فيلمك أن الثورات والاحتجاجات كثيرًا ما تُسرق. ما هو برأيك دورها وقيمتها في ضوء ذلك؟

تعرف كيف يقولون إن الماضي دوري ويكرّر نفسه، ولكن أعتقد أننا يجب أن نولي المزيد من الاهتمام للماضي ونتعلم بعض الأشياء المهمة، لأنه في إيران ورومانيا كان هناك تغيير كبير، تبعه حرية كبيرة أُعطيت لأول مَن دخل من الباب. دعونا لا نظل ساذجين.

 لماذا تعتقد أننا نتخلى عن هذه الحرية بهذه السهولة؟

– لأن الفراغ ينشأ ولا بد من ملؤه بطريقة ما، لأن هذا الفراغ يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية، بمعنى أن هناك معسكرات تتنافس على السلطة. ثم يقول الناس «هيا يا سيدي، لنعطها لشخص ما، حتى لا تكون هناك خسائر في الأرواح». وفي إيران كان هناك قتال بين اليساريين والإسلاميين. وعدَ الإسلاميون في البداية بأن النساء سيكون لهن حقوق أيضًا، وأنه سيكون مجتمعًا عادلًا، لكن تدريجيًا أصبح الأمر أكثر صرامة. وبالنسبة لي، كروماني، أقول سذاجة، لأننا كنا نشاهد التلفزيون وظهر إليسكو (أول رئيس روماني منتخب بعد الثورة) بسُترة، ثائرًا من الشارع، هكذا تم تقديمه. يبدو الأمر كما لو أنهم وجدوه بالقرب من التلفزيون، فأتوا به رئيسًا.

لكن في الوقت نفسه، إذا لم تكن الثورة وهذه الحركات مهمة، فلا أعرف ما الذي سيكون مهمًا، لأنه إذا لم يكن هناك ضغط من المجتمع، فسيكون ذلك شكلًا من أشكال الديكتاتورية.

 

لماذا اخترت أن تروي قصة نسائية، وكيف كان شعورك بتبني وجهة النظر هذه؟

بدأ كل شيء من بعض المحادثات التي أجريتها مع والدتي حول سنوات دراستها والتي أخبرتني فيها عن الشباب الأجانب الذين جاءوا للدراسة في رومانيا خلال الفترة الشيوعية، وكان معظمهم من دول عدم الانحياز في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا. ثم تحدثت مع الكاتبة لافينيا برانيست، التي أضفت بُعدًا دراميًا للمراسلات بين السيدتين، بوحيٍ من سرديات التقارير الاستخباراتية. كان لدى إيران ورومانيا نظامان تهيمن عليهما شخصيات دكتاتورية أبوية، ولهذا السبب أيضًا كنت مهتمًا بتبنّي منظور أنثوي لفيلمي، وتساءلت كيف سيكون الأمر بالنسبة لهما عندما تعيشان في هذا السياق. وكما نعلم فقد أصبحت إيران دولة قامعة للنساء بشكل متزايد، وحتى في رومانيا لم يكن هناك التحرّر الذي أرادت الدعاية تصويره. خلال النظام الشيوعي، كان الإجهاض محظورا وكان التحيّز ضد النساء متجذرًا بدوره.

الشخصيتان مبنيتان بطريقة لا تعرف الكثير من التفاصيل عن حياتهما. كيف قرّرت ذلك؟

بصراحة، لم يكن لدينا حقًا مجال لشخصنة القصة، لأننا أردناها أن تكون حول الثورتين، والحرب الإيرانية العراقية، ونقص  السلع في الثمانينيات في الفترة الشيوعية، والضغوط من أجل الزواج، وبداية الرأسمالية، والبضائع التركية. إعطاء الفردية، وخلق قصة شخصية للغاية، يأخذ مساحة، ولهذا السبب هما أكثر عمومية هنا. لكنني بطريقة ما أحببت ذلك، لم أرد التركيز عليهما كأفراد، لأن هذا هو مفهوم الفيلم. أنت، كمشاهد، تبحث عنهما في الأرشيفات، تنظر وتقول، ربما هي ماريا، وربما هي زهرة؛ هناك وجه مشترك وعمومي، مكوّن من عدة تجارب شخصية.

كما أسلفت، فالفيلم بدأ كفكرة من تجربة والدتي. كانت والدتي تدرس الطبّ وهناك الكثير من العناصر في ماريا من والدتي: المستوصف، التسعينيات، كان لدى والدي متجر صغير يبيعان فيه البضائع. عندما أنجبتني، كانت والدتي تتنقّل ولم تتمكن من إيقاف دراستها في الكلية، لأنه في تلك السنوات كان من المستحيل تقريبًا القيام بذلك. وكنت فضوليًا بشأن حياتها. كان لديها زملاء من المشرق، وكانت تريني الصور. لكن بعد ذلك تركنا والدتي جانبًا وذهبنا إلى هذه الشخصيات الجماعية التي يجد البعض أنفسهم فيها، من كلا البلدين.

يعتمد فيلمك على لقطات أرشيفية، كما فعلت من قبل في «مرَّ الغزال أمامي» (2020) الذي خصّصته لجدّتك الراحلة. كيف تصبح لقطات الفيلم في مرحلة ما هي اللغة التي يستخدمها المخرج ليروي قصته الخاصة؟

في «مرَّ الغزال أمامي»، كانت قصة جدّتي، وانبنت على أرشيفات شخصية. في ذلك الفيلم حاولت أن أفهم ماضي عائلتي بشكل أفضل، وأن أكتشف تفاصيل ومعاني جديدة، وأن أترك نفسي تنقاد مع قصتها. في حالة «بين الثورات»، أردت منذ البداية اختيار صور دعائية، للعثور على القصص الرسمية للنظامين السياسيين وإعادة صياغتها في سياقها من خلال قصص ماريا وزهرة، شخصيتي الفيلم. أعتقد أحيانًا أن هاتين المرأتين وجدتا مكانهما في الأرشيف وتناسبتا تمامًا مع الصور الرسمية، لكن في أغلب الأحيان تتحديان العوالم التي تعيشان فيها وتريدان تغييرًا حقيقيًا.

 أنا مفتون بالأرشيفات، فهي تمتلك قدرة خاصة على إحياء الماضي بشكله المباشر والمقنع والسحري وفرضه على الحاضر. أعتقد أن فيلمًا من الأرشيف أُنتج في 2023 سيختلف تمامًا عن فيلم مشابه سأصنعه في غضون خمس أو عشر سنوات من الآن، وهذا أحد الأشياء التي تهمّني: الطرق التي يمكن أن ينظر بها الماضي إلى أي لحظة معينة، من منظور اللحظة التي ننظر إليه منها، والتجارب التي نمرّ بها، والنهج الذي نتبعه. حتى لو كان صانع الفيلم يعمل مع الأرشيف، أعتقد أن لديه/لديها نظرة تمرّ عبر كل اللقطات، وأعتقد أنه من الجيّد رؤية ذلك في الفيلم الكامل.

كيف تعاملت مع الأرشيف؟ اهتمامك ليس مجرد اهتمام توثيقي، بل هناك بحث جمالي واضح..

بدأت إجراء الأبحاث في رومانيا أثناء الوباء، حيث أُغلقت العديد من المؤسسات ولكن أرشيف الدولة فتح لي الأبواب. كنت أقضي أيامًا كاملة في النظر إلى لقطات قديمة على شرائط 35 ملم وأشاهد الماضي يعود إلى الحياة على الشاشة. في البداية كان الفيلم يتكوّن من مقاطع فيديو دعائية فقط، ولكن بعد ذلك شعرت بالحاجة إلى تضمين المزيد من المواد الشخصية، وركزّت أيضًا على اللقطات التي عُثر عليها Found footage. لم يكن الأمر سهلًا بالنسبة للجانب الإيراني، فالأرشيف محتكر من قبل الدولة وليس من السهل الوصول إليه، وكان هناك شخص واحد، أراد عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، وقد قدّم لي الكثير من المساعدة. أنا ممتن جدًا لمَن صوّروا هذه المواد الجميلة، والآن هناك الفيديو وهذا أمر جيد لأنه أكثر ديمقراطية، لكن التصوير على الفيلم يتطلب المزيد من الاهتمام بالجماليات. بالنسبة للجانب التأليفي/البنائي للفيلم، استرشدت بالعواطف والمشاعر، فالفيلم يدور حول ذاكرة والعلاقة بين الصورة والكلمة، كنت منتبهًا لوجود فجوات وحرصت على الإبقاء عليها، لأن هذه هي الطريقة التي تعمل بها طريقتنا في التذكّر.

عند النظر إلى الصور يشعر المرء بأمل وخيبة أمل، وهي مشاعر ربما تحضر دائمًا في مثل هذه اللحظات/الحركات السياسية الكبيرة..

عندما قامت الثورة في رومانيا، كنت في العاشرة من عمري، كانت الرأسمالية عبارة عن مدينة فاضلة سرعان ما خيّبت آمال الجميع. وربما كان الأمر أقوى بالنسبة لإيران، حيث كان الكثير من الرجال والنساء متحمّسين للتخلّص من الشاه وشرطته السياسية الوحشية، وكان هناك أناس من طبقات مختلفة في الشوارع، من البروليتاريين إلى المثقفين. أردت أن أضع هذه المشاعر على الطاولة لأنني مررت بها أيضًا. ما فعله صانعو الأفلام خلال تلك الحركات كان رائعًا، ويمكننا أن نرى أوجه تشابه بين الطرق التي أراد بها الناس في إيران ورومانيا أن يكونوا في قلب الحدث والقصة.

ماذا تعني لك صناعة الأفلام الوثائقية؟ وكيف تتوقف عند موضوع دون آخر؟ هل هناك خوف من أن تظل موضوعاتك محلية جدًا؟

هذا التوقف عند موضوع معيّن أكثر تعقيدًا. لدي العديد من السيناريوهات المحتملة في ذهني، أجزاء من الأفلام التي أعرضها. أحيانًا تأتيني أفكار عندما أسير في الشارع، عندما أتحدث إلى شخص معيّن، عندما أشاهد فيلمًا أو أقرأ كتابًا، من الصعب تحديد أين يبدأ الفيلم وأين ينتهي. أعتقد أن لدي الكثير من الأفلام غير المكتملة التي أفكر فيها. تمامًا مثل الصور التي تمنيت لو التقطتها، ولكن لأسباب مختلفة لم تتحقق، وظلت تشغلني لفترة طويلة. لا أفكر بالضرورة على المستوى المحلي/العالمي، أريد في المقام الأول أن يثير الموضوع الذي اخترته الأشياء بداخلي، وأن يستفزني، وأن يجعلني أفكر، وأن يجعلني أبحث عن الأشياء واكتشفها خلال فترة التوثيق والإنتاج.

هل هذه الطريقة في استخدام لغات متعددة لتوثيق قصة أو واقع، تمنحك المزيد من الحرية كصانع أفلام؟

كنت شغوفًا منذ فترة طويلة باستكشاف الحدود بين الوثائقي والروائي. أحبّ الأفلام التي بها ممثلون يصنعون عوالم ويجعلونك تفقد نفسك وتنسى هذا الاتفاق/التواطؤ بين المتفرج والصانع، تمامًا كما أحبّ الأفلام الوثائقية التي تتجاوز الملاحظة وتكشف عناصرها السينمائية من وراء الكواليس، والتي لا تحاول فقط سحرك بالصدق المطلق أو الموثوقية الدقيقة. لا أريد أن أفكر في مخططات ثابتة، أريد اختبار الحدود بين هذه الاتفاقات. أعتقد أن الحرية هي شيء تسعى إليه لنفسك كصانع أفلام، بغض النظر عن نوع الفيلم الذي تصنعه.

ما مدى أهمية صانع الأفلام الوثائقية، الذي يقال إنه ذئب وحيد، بالنسبة لطاقم صغير ومُنتِج؟

تعاونت في هذا الفيلم مع المنتجة مونيكا لوزوريان غورغان، التي كان لها تأثير كبير على العملية الإبداعية برمتها. كان من السهل علينا التواصل، فهمت احتياجاتي، وعرفت متى أحتاج إلى الدعم والتغييرات الجذرية في عملية الإنتاج. كانت مساهمتها كبيرة جدًا وآمنت بهذا الفيلم منذ اللحظة الأولى، وهو أمر مهم جدًا. وكان الأمر نفسه مع أعضاء الطاقم الآخرين. يجب أن أعترف أنني أحب الطواقم الصغيرة، المكونة من أشخاص يطوّرون علاقات ودّية وثقة متبادلة، وهذا أمر حيوي بالنسبة لي.

كيف تصف المسؤولية التي يتحملها صانع الفيلم عندما يكون لشخصياته وجود ملموس؟ هل هو توثيق للواقع أم تخييل وإعادة كتابة؟

كيفية عرض الأشياء في الفيلم بمثابة مسؤولية كبيرة، إذا كنا نتحدث عن أشخاص ومجتمعات حقيقية. من المهم لصانع الفيلم الخروج من المخطط، حيث يريد فقط أن يصنع فيلمًا ناجحًا، ويفكر في الأشخاص الذين يصورهم، وحقيقة أن حياتهم ستستمر بعد توقف الطاقم عن التفاعل معهم. في حالة الفيلم الروائي، ينهي الممثل دوره بعد يوم واحد من التصوير ويواصل حياته كإنسان، من دون التعرض للقدر نفسه من الانكشاف. هناك الكثير لنناقشه حول كيفية تعاملنا مع الواقع والخيال، ومن وجهة النظر هذه، يمكنك وضع ترسيم واضح بين النوعين والمقاربتين، من هذا المنظور هناك حدود واضحة، مختلفة عن تلك التي كنت أتحدث عنها سابقًا.

هل عُرض الفيلم في إيران؟

بالطبع لم نتمكن -ولا أعتقد أنه ممكن أصلًا- من عرض الفيلم بشكل رسمي في إيران، لكنه عُرض بطريقة ما سرًا في شقق ومواقع «آمنة». أعددنا ملفات صوتية باللغة الفارسية حول الفيلم، ويجري تداول نسخة منه، مع ترجمة باللغة الفارسية، على تليجرام. وصلتنا رسائل من إيران على صفحة الفيلم تخبرنا أنهم أعجبوا به. كتب إليّ بعض الإيرانيين أن الفيلم أثر فيهم بعمق، وأخبروني أنه يبدو وكأنه صور من حاضرهم، وليس منذ عقود مضت. كتبت إحدى الفتيات إلينا أنها شاهدته ثلاث أو أربع مرات، وأنه أعلمها بجزء من التاريخ لم تكن تعرفه.

ما الانطباعات التي كوّنتها من جولاتك في إيران؟

أعتقد أن هذا هو البلد الذي ربما يكون به أكبر اختلاف بين العلاقات التي يمكنك أن تقيّمها على المستوى الفردي مع الناس وشكل الحكومة هناك. الناس منفتحون للغاية. ربما وجدتُ هناك أيضًا بعض الجسور وبعض الروابط مع رومانيا التي أتذكرها عندما كان عمري عشر سنوات. وبالمثل، في رومانيا، إذا جاء سائح من فرنسا أو ألمانيا، من الغرب، كانت هناك رغبة من الناس في سؤالهم، كيف حالك؟ كيف هو الأمر معك؟ أريد أن أتحدث معك، لأخبرك برأيي. في إيران، سافرنا بالقطار، بالحافلة، وبقينا في منازل الناس، وجلسنا على الأريكة. كان الناس منفتحين بشكل غير عادي وكانوا جميعًا ينتقدون الحكومة. مطّلعون وواعون.

تتمتع إيران بتاريخ مهم في المنطقة، والناس لديها فضول، وأكثرهم من الشباب. كان الإنترنت أكثر انفتاحًا في تلك السنوات، والآن بعد الاحتجاجات.. على أي حال، كان لدى الكثير منهم شبكات VPN. شعرت لديهم برغبة في المعرفة، والخروج من بلد منغلق. وكانت رومانيا دولة منغلقة للغاية، لا ترى ولا تعرف فيها شيئًا. كان لدي مجلات نيكرمان الألمانية، أتذكر أن رائحتها كانت بهذه الطريقة، عطرة بطريقة ما.. أنظر إلى البيجامات والملابس فأراها كلها متوهجة. أما في الوطن، فكانت الأمور كارثية، كل شيء كان رماديًا، وكان هناك فقر في الثمانينيات مع كل التقشف والنقص.

ما الفيلم التسجيلي/الوثائقي الذي أثار إعجابك (مؤخرًا، إن أمكن) ولماذا؟

«وطن: العراق السنة صفر» للمخرج عباس فاضل، وهو فيلم دافئ وصادق للغاية عن عائلة وعالم يموت تدريجيًا أمام أعيننا. يقوم المخرج-المصوّر بالتحقيق، ويستجوب، ويصنّف الواقع من حوله، من خلال الطرق التي ينظر بها إلى عائلته، وجيرانه، وغزاة بلده، مدركًا قيمة الصور التي لا يمكنه التقاطها إلا في تلك اللحظة، فقط من خلال تلك اللحظة. نوع من السينما المباشرة والخام والصادقة. فيلم ينهار فيه عالم، ويموت الناس، ولا ينصفنا إلا وجود رجل يحمل كاميرا، من خلال ما يصوّره ويشاركه معنا، دون أن يجبرنا على التعاطف مع أحدهم دون الآخر، ويتركنا لنعمل عقولنا عواطفنا كلّ بطريقته ووسيلته. نموذج لسينما أصيلة ذات قيمة تسجيلية/وثائقية لا تقدَّر بثمن.